اليوم
الثاني
من عُمق الصحراء إلى المُعين طيبة
من كتاب الرحلة المكية
ختمنا
يومنا الأول في منطقة "أبو عجرم"، تلك البقعة التي سُمّيت نسبةً لشجرة
من أفضل أنواع الأشجار التي تُستخدم لإطعام الإبل. تقع هذه المنطقة في محافظة دومة
الجندل في منطقة الجوف، وقد تم ترتيب مركز حديث فيها لاستقبال حجاج البر القادمين
من العراق والبلدان القريبة، ليكون حلقة وصل مع المدينة المنورة التي يقصدها
الزائرون.
الصلاة يا حاج:
ومع
صوت المُتجول الذي يبدو شاباً ضخم الجسم، طويل القامة، وهو ينادي: "الصلاة يا
حاج .. الصلاة يا حاج"، استيقظت الحشود التي كانت تفترش الأرض والطرقات
والمخيمات في أبو عجرم مساءً. بدأ الناس بالتوجه نحو أماكن الوضوء ودورات المياه،
ثم احتشدوا في الساحة على شكل تجمعات وجماعات تؤدي الصلاة، بتنوع انتماءاتها بين
من يسبل يديه ومن يتكتف، ومن يخفت ومن يجهر، ومن يصلي فرادى.
بعد الصلاة، أُخرجت من الحافلات أدوات تُشبه "الطباخات"، وفُرشت الطرقات، وبدأت رائحة البيض المقلي تفوح من موائد الجماعات في منظر لا يُرى إلا في مثل هذه المناسبات. هنا، استُدعِيت لأخذ صورة جماعية للحجاج مع من كان يُعدُّ لنا الفطور. كان بينهم حاجٌّ سرد لنا ذكريات قديمة عما كان يقوم به، وكيف غادر دكانه في منطقة الحي الصناعي. كان لطيفاً وظريفاً، يردد: "يا وردة" كثيراً، أو "أنتم ورود"، "أنتم طيبون"، وغيرها من كلمات الحب والثناء التي تصدر عن ذلك الشيبة الأريحي المحبوب.
بعد
تناول وجبة الفطور، دار حديث حول تسهيل مهام الحج التي تختلف هذا العام، حيث كان
هناك اهتمام كبير من السلطات السعودية بهذا الأمر، مما أثار انتباه الحجاج الذين
قدموا في السنوات السابقة، إذ لاحظنا نوعاً من التحديث والتغيير نحو الأحسن.
فتحت الابواب:
ومع
مرور الوقت والتأخير من قبل رجال الأمن عند بوابة أبو عجرم، حانت الساعة السابعة
صباحاً، فخرجنا نحو البوابة الرئيسة إيذاناً بالخروج وتوديع المنطقة ومن فيها،
والتوجه إلى مدينة رسول الله (ص)، حيث سنحط الرحال هناك ونقضي بعض الأيام.
غادرنا
صحراء أبو عجرم، تلك المنطقة البعيدة عن المدينة المنورة مسافة (800) كيلومتر،
والتي تعد ثاني محطة خدمية سعودية يقف عندها الحجاج القادمين عبر حدود عرعر. سارت
بنا الحافلة ساعات وساعات، وقطعنا الفيافي الطويلة حتى حطت بنا الرحال عند محافظة
(تيماء) الواقعة في عمق الصحراء. هنا، أخذنا استراحة قصيرة، حيث حدثنا أحد الإخوة
عن هذه المدينة التي سكنها اليهود بعد أحداث معركة خيبر، ثم هاجروا منها بعد الفتح
الإسلامي. تُعتبر تيماء من المدن الهادئة قليلة السكان، وتضم العديد من المعالم
التاريخية مثل قصر الحمراء وقصر الأبلق والسور الأثري.
نحو مدينة خيبر:
ثم
سارت بنا الحافلة نحو مدينة خيبر، التي سمعنا بها جميعاً وعرفنا ما لهذا الاسم من
أهمية في التاريخ الإسلامي. خيبر شاهدة على تلك الغزوة التي جرت أحداثها بين
المسلمين واليهود، وقد تغلب فيها المسلمون عليهم، وكان لأبي الحسنين الإمام علي
(عليه السلام) دورٌ مهمٌّ في هذا الانتصار بعد أن قلع باب حصن خيبر، حتى قال
الشاعر:
يا
قالعَ البابِ الذي عن هزِّهِ ... عَجَزَتْ أَكُـفٌّ أربعونَ
وأربع([1])
بقي
اسم "خيبر" شاهداً تاريخياً كبيراً على نصر إسلامي عظيم، وقصة ترويها
الأجيال تلو الأجيال. إنها مدينة سعودية غنية بالإرث الحضاري، تتميز بأرضها
الخصبة، وعيونها، وبراكينها، ونخيلها، وعطورها، وبخورها.
اجتزنا
منطقة خيبر، ولم تقف عندها الحافلة. سأل أحد الإخوة عن اسم هذه المنطقة، فقيل له
إنها "خيبر"، وذكرت المقولة الشهيرة: "خيبر خيبر يا يهود".
يُقال إنها سُميت بهذا الاسم نسبةً إلى رجل يهودي اسمه خيبر بن فاتية بن مهلائيل،
الذي كان أول من نزل فيها.
عند منطقة المثلث:
عند
منطقة المُثلث، توقفنا لصلاة الظهرين وتناول وجبة الغداء. كان هناك من يُنادي
عليَّ: "تعال ساعدنا في مد السُّفرة". وإذا بالقدور تُخرج من خزانات
الحافلة، حيث التشريب والباميا والدولمة التي ملأت السفرة. تناول الحجاج الغداء
وبعده الشاي، كعادة العراقيين، واستمر الأمر لأكثر من ساعة ونصف. وبعدها غادرنا
المُثلث قاصدين المدينة المنورة، حيث محط الحلّ والترحال.
ونحن
نخترق الجبال الشامخة، والطرق الوعرة، والأراضي الصحراوية الواسعة، كانت الحافلة
تتقدم بنا رويداً رويداً نحو المدينة المنورة. على طول الطريق، كانت هناك علامات
مرورية تخبرنا بما تبقى من مسافة. هنا، طرح أحدهم سؤالاً: "كيف استطاع الإمام
الحسين (عليه السلام) مع عياله أن يجتاز كل هذه المسافة الصحراوية ويصل إلى أرض
العراق؟" فأجبت: "إنّ الله عز وجل، إذا أراد أن يُحدث أمراً، هيّأ له كل
الظروف والإمكانيات وأزال عقباته. أما الطريق الذي سلكه الإمام، فهو غير هذا
الطريق الواسع والطويل، إذ كان هناك طريق مختصر أكثر مما نسلكه اليوم، وكانت هناك
أماكن شاخصة ومعلومة مثل البصرة والكوفة والحجاز، مرتبطة بطرق واضحة."
كي ندخل على شكل رتل واحد:
ومع
اقترابنا من المدينة، بدأت معالمها تتضح، ووقفتنا القوات الأمنية كي نخرج على شكل
رتل واحد. بعد تجمع مجموعة من الحافلات، جاء الإيعاز للخروج، وكانت الدورية تتقدم
الحافلات تسير بنا مسافة عشرين كيلومتراً حتى دخولنا إلى مدينة الزائرين المُخصصة
للحجيج، حيث تم إرسال مندوب معنا إلى الفندق المخصص قرب أئمة البقيع والمسجد
النبوي. أخبرنا المرشد أن اسم الفندق هو "المُعين طيبة"، وتوجهت بنا
الحافلة إليه بعد الاستعانة بتطبيق المواقع الشهير (GPS).
امام ابواب الفندق:
عند
وصولنا، انتظرتنا مفاجأة أمام أبواب الفندق، حيث كان التزاحم رهيباً لا يوصف. أخذ
كل واحد منا حقيبته، وتوجهنا إلى الطابق السابع، حيث كانت الغرفة المخصصة لي رقم
(722) تحتوي على أربع أسرة. بعد أن رتبنا أماكننا، نزلنا إلى الطابق (M)
لتناول وجبة العشاء المكوّنة من الرز ومرق الباميا مع بعض المقبلات البسيطة. عدنا
إلى الغرفة ومعنا الحقائب الكبيرة التي أخذناها من الحافلة، وبدأنا نستعرض أمور
إقامتنا.
إلى
هنا انتهت رحلتنا لهذا اليوم، وقد كانت واحدة من الرحلات الشيقة والجميلة التي
تتيح لك أداء شعائر الحج واستكشاف أماكن جديدة وثقافات مختلفة. ورغم ما يتخللها من
تعب ومشقة، إلا أن كل ذلك يذهب في سبيل إحياء إحدى شعائر الله، وهي شعيرة الحج،
التي تمثل أكبر وأجمل الأهداف التي يسعى كل واحد منا لتحقيقها.
في الختام:
الحج
عبادة ليست ككل العبادات؛ فهو يحتاج إلى استطاعة جسدية ومالية وفكرية، كما أنه
محدد بأوقات وأزمنة معينة. وفقنا الله وإيّاكم للقيام بأعمال الحج على أحسن وجه
وأجمل صورة، للوصول إلى الغايات وكسب أعلى الدرجات، وتحقيق الأمنيات والفوز
بالجنات.
اليوم
الثاني هو انتقالٌ من اختبار الجسد إلى ارتقاء الروح. فكما أن "المعين
طيبة" روَت عطش الحجاج، فإن الرحلة تروي عطش القلب إلى الله. هنا، يتعلم
الحاج أن الصحراء ليست فراغاً، بل هي مرآةٌ تعكس ضعفه أمام خالق الكون، وفي الوقت
ذاته، تُذكِّره بأن نعمة الإيمان هي الينبوع الذي لا ينضب.
كل
خطوة في الرمال تُحفَر كذكرى في الروح، وكل ليلة تحت النجوم تُقرِّبهم من الفجر
الأكبر: فجر الوقوف بين يدي الله في عرفة.
إرسال تعليق