U3F1ZWV6ZTM3NDI4MTc4MTgxNzE1X0ZyZWUyMzYxMjkzMTI0MzgyNg==

الرحلة المكية، اليوم الثاني عشر بين أسواق مكة وذكريات الروح.

 

اليوم الثاني عشر
بين أسواق مكة وذكريات الروح

 من كتاب الرحلة المكية

الكاتب/ عبد الاله الشبيبي


المقدمة: 

ها نحن نصل إلى اليوم الثاني عشر من بداية رحلتنا إلى الديار المقدسة لعام 1445هـ عن طريق البر، إذ كان من المأمول أن يكون حجّنا جوَّاً برفقة السيدة الوالدة (رحمها الله)، ولكن تجري الأمور كما يريد الخالق عز وجل لا كما يريد العبد، فهو أعلم بما يجري لنا وعلينا، إذ تنازلت الحاجة قبل وفاتها إلى أحد أخوتي، وبعد شهور رحلت إلى جوار ربها الرحيم، فما علينا إلا الدعاء لها بالرحمة والمغفرة عند صاحب البيت المعمور: "ربِّ اغفر لها وارحمها وأسكنها فسيح جناتك".

ولستُ أخفي عليكم أمراً لو قلت لكم أنّ والدتي منذ بداية الرحلة وحتى كتابة هذه السطور لم تغب عن ذاكرتي ومخيّلتي، فقد كانت ترافقني في حركاتي وزياراتي وسكناتي وصلاتي، وفي أحلامي أيضاً، يوماً تشد على يدي، ويوماً تطلب مني الحزم، كما أن دموعي تجري عند ذكرها وأنا أمشي وأنا جالس حتى وأنا نائم، فلها بعد الله عز وجل الفضل الكبير في وجودنا هنا في الديار المقدسة، ولولاها لما كنا نؤدي هذه المناسك، فكانت نعم الأم المُربية والمعلمة التي غذتنا الحب والإيمان، فشكراً لها. ولست أنسى قول الشاعر:

لا عذب الله أُمي إنها شربت

 

حُب الوصيّ وغذتنيه باللبنِ


وكانَ لي والد يهوى أبا حسنِ


 

فصرت من ذي وذا أهوى أبا حسنِ


بدأنا هذا اليوم كما سبق من أيام بالصلاة والإفطار، ومن ثم النزول إلى إحدى (المولات) الكبيرة في مكة المكرمة، دخلنا إلى (مول) واسع وكبير وفيه أقساماً متشعبة، فتجولنا فيه واشترينا منه بعض الأغراض والمستلزمات العائلية، كنا نذهب في أغلب الأيام من أجل الاطلاع وقضاء بعض الوقت في معرفة الأمور الحياتية هناك.

مدافن الخلفاء الأربعة:

وأثناء حديثنا مع الكاشير دار موضوع عن مدافن الخلفاء الأربعة، فتبين أنه لا يعرف شيئاً عن أماكن وجودهم رغم أنه رجل كبير في السن ذو لحية طويلة ولسان فصيح ولهجة مصرية، ويبيع الأغراض والهدايا الإسلامية.

وعندما قال له أحد الحجاج: سأدعو لك عند أبي الحسن في النجف، قال: أين تقع النجف ومن هو أبو الحسن؟ فقلت له: في العراق، فهناك دُفن أبو الحسن الإمام علي (u) الذي هو في نظركم الخليفة الرابع، أمّا الأول والثاني (أبو بكر وعمر) فقد دُفنا جنب الرسول، والثالث (عثمان) مدفون في طرف البقيع، والرابع (علي) في النجف الأشرف، فقال: بالبصرة! .. نقول له بالنجف ويقول بالبصرة.

ولك أن تتصور أيُّها القارئ جمهوراً بهذا الحجم وفي زمن الانفتاح والانترنت وهو لا يعرف أين مدافن الخلفاء الأربعة، جمهور مُغيب عن العالم الحقيقي لا يميز النجف من البصرة، كما في ذلك الزمن عندما كانوا لا يميزون بين الناقة والجمل، وقد قال معاوية لأحدهم: (أبلغ علياً أنّي أُقاتله بمائة ألف ما فيهم من يفرّق بين الناقة والجمل) ([1]).

خطوات أعمال الحج:

ومن ثم قررنا العودة، فاجتزنا الشارع الرئيس ورحنا نقطع المسافة مشياً على الأقدام، وفي أثناء المسير تعثر أحد المرافقين وكادت أن تُكسر رجلهُ لولا لطف الله عزّ وجلّ، ومد يد العون له حيث كنت أسنده، ومن ثم توقفنا عند إحدى المحطات التي خصصت للحافلات فسارت بنا إلى بداية شارع صدقي.

ومن ثم قطعنا باقي المسافة إلى الفندق، فوجدنا المرشد قد بدأ في إلقاء المحاضرة على الإخوة والتي يتناول فيها شرح وإيضاح خطوات أعمال الحج خطوة بخطوة كي لا يقع الحجيج في مشاكل ومعوقات أثناء الممارسات، فقد ذكر في يوم أمس كيفية الإحرام الذي هو أول الأعمال والذي يستحب أن يكون من داخل الحرم، ومن ثم العمل الثاني (الوقوف بعرفة)، علماً أن أرض عرفة توجد فيها قطع دلالة توضح حدودها فلا يجوز الخروج من عرفة بعد نية الوقوف بها، وخلال تواجدنا هناك علينا الانشغال بالدعاء والعبادة كالصلاة والذكر، ويستحب صيام هذا اليوم لمن لا يضعفه الدعاء وبالخصوص دعاء الإمام الحسين (u).

وقد سُمِّي عرفة لأن الناس يتعارفون به، وقيل سُمِّي عرفة لأن جبريل (u) طاف بإبراهيم (u) فكان يريه المشاهد فيقول له: أعرفت أعرفت؟ فيقول إبراهيم عرفت عرفت. وقيل: لأن آدم لما هبط من الجنة، وكان من فراقه حواء ما كان فلقيها في ذلك الموضع، وعرفها وعرفته.

وهناك روايات كثيرة أشارت إلى أهمّية الوقوف بهذا المكان، وأن الله تعالى يُباهي ملائكته عشية عرفة بأهل عرفة.

وعن النبي (ص): إن الله تطول على أهل عرفات يباهي بهم الملائكة، يقول: يا ملائكتي، انظروا إلى عبادي شعثاً غبراً، أقبلوا يضربون إلي من كل فج عميق، فأشهدكم أني قد أجبت دعاءهم، وشفعت رغبتهم، ووهبتُ مُسيئَهُم لمُحسِنِهم، وأعطيت مُحسِنَهم جميع ما سأ‍لني، غير التبعات التي بينهم. فالله غفور رحيم مهما فعل الإنسان من ذنوب، وهو يقبل التوبة من عباده على أن لا يعودوا إلى الذنوب.

أهل عرفات:

وعلينا أن ننتبه إلى مسألة الظلم، فيجب أن نتحلل من ذلك ونطلب براءة الذمة ممن ظلمناهم قبل الوقوف في تلك المشاعر العظيمة، فهي من الأمور التي تنقي القلب وتزيد من الاطمئنان، كما هو أسلوب التسامح الذي يرفع شأن الإنسان.

فلا بد أن نقف في ذلك الموقف ونحن بذمة صافية من التبعات التي وقعت علينا ووقعنا عليها، كذلك يجب علينا اجتناب الغيبة والفسوق والبهتان فهي نوع من أنواع الظلم للآخرين، وردّ الحقوق التي علينا للآخرين.

فعن النبي (ص): ما من يوم أكثر أن يعتق الله فيه عبيداً من النار من يوم عرفة، إنه ليدني، ثم يباهي بهم الملائكة، فيقول: ما أراد هؤلاء. وفي حديث آخر: إن الله يباهي بأهل عرفات أهل السماء، فيقول لهم: انظروا إلى عبادي، جاؤوني شعثاً غبراً. كما علينا أن ندعو الله ونحن موقنين بالإجابة.

وأيُّ أهل عرفات أعظم جرماً ممّن ينصرف مِن عرفات وهو يظن أن الله لا يغفر له؟ فكن مطمئناً أن صوتك مسموع ودعائك مرفوع ومناجاتك مسجلة ودموعك محفوظة وأجرك مضاعف، فلا تكن جافياً، أو مستعجلاً الرد، فسبحان من يقسم الأمور وطلب الإجابات.

ثمّ قال المرشد: بعد الغروب سنتحرك من موقف عرفة ونتجه إلى مزدلفة وهناك نصلي صلاة المغرب والعشاء في عرفة كي لا نقع في ذلك الزحام الكبير، ومن المرأب نركب إلى مزدلفة، وهي الموقف الثالث من أعمال الحج، التي يجب الوقوف فيها شطراً من الليل وهي ليلة العاشر (ليلة العيد) لمن لا يستطيع المبيت من الكبار والنساء، أما الأقوياء فلا بد من المكوث حتى طلوع الشمس.

من أعظم أركان الحج،:

كما لا يجوز الخروج منها، وهي من أعظم أركان الحج، بل أعظم حتى من الوقوف بعرفة، لأن من يفوته الوقوف بمزدلفة لا حج له. ولهذا يجب الحفاظ على البقاء فيها. وهنا يمكن أن ينقلب حجهُ إلى عمرة مفردة، فكن محافظاً على أعمالك من الضياع ولا تقصر في أي محطة من تلك المحطات العظيمة التي أرادها الله عز وجل أن تكون بهذه الكيفية وهذه الصورة، فما عليك إلا الطاعة والالتزام والتسليم لأمر الله عز وجل.

وهناك نوعان من الوقوف في عرفة ومزدلفة، اختياري واضطراري، فإذا لم يتمكن الشخص من الوقوف الاختياري فيهما لعذر من الأعذار يجب عليه أن يعوضه بالوقوف الاضطراري.

والوقوف الاختياري في عرفات يبدأ من زوال يوم التاسع من شهر ذي الحجة إلى غروب الشمس، وأما الوقوف الاضطراري فيه فهو الوقوف مقدار من الوقت ولو قليلا ليلة العيد.

والوقوف الاختياري في مزدلفة هو أن يبيت شطراً من ليلة العيد فيها إلى طلوع الشمس، وأما الوقوف الاضطراري فهو الوقوف مقدار من الوقت ولو قليلاً من طلوع شمس يوم العيد إلى الزوال.

المشعر الحرام:

وأمّا مزدلفة التي يقال لها المشعر الحرام، وهناك من يقول أن المشعر الحرام جزء من مزدلفة، ويجوز الترخيص لكبار السن والنساء والمرضى وقد رخص لهم الشارع المقدس ذلك. فقد قال تعالى }فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ{([2])، وقد قالوا أن المشعر هو المعلم، والمشاعر هي المعالم، وهي مواضع للعبادة والذكر، وسمّيت مزدلفة أيضاً لاقتراب الناس من منى بعد الإفاضة من عرفات، واعترافهم وعرفانهم بما حدث لهم، وقد اعترفوا بجرمهم وتوجهوا إلى الله لطلب الغفران.

ثم توجهنا إلى المطعم، فكانت الوجبة من الرزّ ومرقة الباميا مع المقبلات الأخرى، ودار الحديث حول توضيح ما تناوله المرشد في محاضرته لهذا اليوم من أعمال الحج الثلاثة وهي الإحرام والوقوف بعرفة ومزدلفة، ولماذا سميت الأخيرتان بهذا الاسم، عرفة من الاعتراف، ومزدلفة من الإفاضة بعد الاعتراف في عرفة.

ثم أدينا صلاة الجماعة وبعدها وجبة العشاء التي كان فيها كباب وبطاطا وكأس من اللبن والصمون، ورحنا نتحدث عن الأنساب والعشائر وأيام الجد والشباب والعمل في تلك السنوات، وكل واحد منا يبرز بطولاته وإنجازاته في تلك السنوات، وما إن أخذ الكبر نصيبه حتى صار المرء يشكو من الأمراض والضعف، ولسان الحال يقول ألا ليت الشبابُ يعود يوماً وأخبره عن أداء مناسك الحج.

الفيوضات الربانية:

ومن ثم تهيأنا إلى التوجه نحو الحرم وأداء الطواف وإهداء ذلك إلى الأحباب والأصحاب، فالجلوس في ذلك المكان لا يُمَلُّ، والنظر وحدهُ إلى الكعبة عبادة وعليه أجر من الله عز وجل، كما أن الوجود فيه يشعرك بالقرب من الرحمات الإلهية والفيوضات الربانية والمقامات العالية والانغماس في عالم النور والهداية، فالحمد لله على ذلك.

الصلاة على الحبيب مسك وطيب:

كان سائق إحدى الحافلات، الذي يحمل الجنسية المصرية، يُشعل الحماس في قلوب الحجيج بعد أن يكتمل العدد ويشرع بالانطلاق، قائلاً: "الصلاة على الحبيب مسك وطيب، الصلاة على الحبيب شمس لا تغيب، الصلاة على الحبيب شفاء بلا طبيب، الصلاة على الحبيب تدعو وربك يستجيب، فسمعونا الصلاة على الحبيب!" وبين الفينة والأخرى، كان يُعيد ترديد هذه الأبيات، وعندما يلاحظ أن الهدوء قد خيم على الحجيج، كانت الحافلة تفيض بالأصوات الكريمة والصلاة.

وعند دخولك الحرم تشعر وكأن نفسك قد حَلَّقت في عالم الروحانيات وتناثر الفكر بعيداً عن الماديات وراح يطلق التأمل في ماورائيات صنع الله وخلق الإنسان، كيف أقام إبراهيم الخليل هذا الصرح في وادٍ غير ذي زرع، إنه رمز التوحيد البشري في قبال رمز الشيطان في رمي الجمرات رمز الظلم والفسوق والعصيان، وأن يتفكر الإنسان في آيات الله الآفاقية والأنفسية وعظيم الصنع والإبداع.

وأناجي ربي:

ولمّا سنحت لي الفرصة رحت أقبّل جدار الكعبة وأضع خدي عليه وأتمسح به وأناجي ربي بكلمات تخرج من أعماق قلبي في تلك اللحظات الخالية من المشاغل، يا إلهي هل أنا بحق أقف في هذا المكان الذي طالما كنت أحلم به وأراه عبر الشاشات أيام الحج والصلوات؟ ها أنا اليوم أحقق ذلك الحلم الذي لم يكن صعباً على الرحمن، الذي شاء أن يوفدني إلى بيته أطوف وأسعى وأناجي، وكلي ثقة بأن الله يسمع ويرى، وهو في الأفق الأعلى يعلم بحالي ويستجيب لي دعائي.

في الختام:

حتى ختمنا يومنا، وعدنا إلى الفندق ونحن نشعر بالارتياح الروحي والانشراح النفسي مغمورين بالعبق الإيماني والنفحات التي غمرتنا في تلك اللحظات وذلك المكان المقدس الذي تُشدُّ له الرحال من كل فجٍّ عميق.

تظل هذه اللحظات محفورة في الذاكرة، تحمل في طياتها عبق الإيمان وروحانية المكان. لقد كانت رحلة إلى الذات قبل أن تكون رحلة إلى البيت الحرام، حيث استشعرنا عظمة الخالق في كل زاوية، وذقنا حلاوة الدعاء والرجاء.
عند ركن الحجر الاسود.




([1]) مروج الذهب، المسعودي، ج2، ص72.

([2]) سورة البقرة: الآية 198.

تعليقات
ليست هناك تعليقات
إرسال تعليق

إرسال تعليق

الاسمبريد إلكترونيرسالة