بين الطموح والمثابرة
المقدمة
في
بحر الحياة الواسع، حيث تتلاطم أمواج التحديات والصعوبات، يظهر الطموح كمنارة تضيء
دروب الأمل، بينما تأتي المثابرة كالسفينة التي تبحر بنا نحو النجاح. إن الطموح هو
ذلك الحلم الذي يراود النفوس، بينما تمثل المثابرة الجهد المستمر لتحقيق هذا
الحلم. إنهما رفيقَان لا غنى عنهما في رحلة الحياة، حيث يتحدّيان الفشل ويواجهان
المصاعب، ليصنعا من كل تحدٍ فرصة للتقدم.
في هذا النص، نستعرض كيف يمكن للطموح والمثابرة أن يتحدا في وجه الأزمات، وكيف استطاع الشباب، رغم جائحة كورونا، أن يظلوا متألقين في سعيهم نحو العلم والنجاح. سنستعرض قصصهم الملهمة، وسنتعرف على القيمة الحقيقية لهذين العنصرين في صناعة المستقبل.
رحاب الصيف والجهد الأكاديمي
في
رحاب أيام الصيف اللاهبة، حيث تنساب دفء الشمس سكبا على الأزقة والطرقات، تفتح
الصيدليات أبوابها كصدور رحبة تستقبل طلاب العلم، هؤلاء الساعين نحو التطبيق
والمواجهة، الوافدين لينهلوا من معين التجربة، فيضيفوا إلى رصيدهم الأكاديمي ذرات
من نهر الواقع، ولقًى من حياة الممارسة والكفاح.
هنا،
في قلب هذا الحراك الدائب، بين صرف الأدوية وقراءة الوصفات والاطلاع على المناشئ
والشركات، قد تخفى الوجوه في زحمة الحشود، ولكن إذا أمعنت البصر، ستنكشف لك وجوه
تشع بنور اليقين، وقلوب تنبض بصمت الإرادة، وخطى تسير بثقة نحو العلى، كأنها تردد
في صمتها ما نظمه الشاعر:
إذا
غامرتَ في شرفٍ مرومٍ ... فلا تقنعْ بما دونَ النجومِ
فتجد بينهم طلابًا تتقد في أعماقهم شعلة من الطموح لا تنطفئ، ونورًا من الأمل لا يخبو، كأن أرواحهم نسجت من خيوط التحدي، وقلوبهم شكلت من عزائم الصابرين المتشبثين بحبل الغيب.
الجائحة والتحديات
وفي
خضم الجائحة التي هزت أركان العالم، حين انتشر فيروس كورونا كسيل جار، وعُمّت
الرعب أرجاء البلاد، كانت النجف الأشرف من أوائل المناطق التي استقبلت صواريخ
الوباء. لحظات صادمة تراجعت فيها الأنفاس: صيدليات تضج بالهاربين من الوباء،
يتدافعون على المعقمات والكمامات ومقويات المناعة. أسواق شاغرة تكاد تصمت من
الفزع، شوارع تمتلىء رعبًا، مراكز حيوية تُغلق أبوابها، مطارات ومعامل تتوقف
كالساعات المكسورة، مستشفيات تئن بالمصابين، ووفيات تتصاعد كسحب سوداء، ونشرات
الأخبار ترسل صواريخ اليأس.
لكن هؤلاء الطلاب لم يكونوا كالجمع، لم يركنوا إلى ضعف، ولم يستسلموا لصراخ الوباء، بل واجهوا العاصفة بجباه واثقة وعزم صلد. تذكروا قوله تعالى: ﴿ إن مع العسر يسرا ﴾، فصار التعليم الإلكتروني "عن بعد" ملجأهم الآمن، ولغة جديدة للبقاء.
صعوبات داخلية وخارجية
ومع ذلك، مرت عليهم أيام كالجبال، لم تكن صعوباتها في المادة درسًا فحسب، بل في أعماق نفوسهم: أجواء عائلية مضطربة تعكس هموم العالم، صراعات داخلية ترسل ظلها على قلب اليقين، حتى كاد اليأس أن يسرق من أعينهم بريق الحلم الذي رسموه بأحرف من نور. ولكن... رغم كل ذلك، لم تخفت جمرات العزم في صدر أحد. فقد أدركوا بحكمة المجاهدين أن النجاح حصاد للتغلب على صعاب الداخل والخارج معًا، وأن القمة لا ترتقى إلا بسلم التجربة المر.
مواجهة الشك والنجاح
وفي
المراحل الأخيرة، بعد كل تلك المحطات العجاف، استقبلوها بوجوه مشدودة إلى الأفق،
فإذا بسهم الشك ينهال عليهم من كل صوب: "لن تصل"، "ليست لك"،
"أحلامك أكبر من إمكانياتك!". فردوا في صمت أعمق من الكلام، وفي أعماقهم
يتردد صدى: "سأبلغها... أو أموت دونها"، مرددين كالمنادين: "من جد
وجد"، "ومن طلب العلى سهر الليالي وكافح الصعاب".
اضغط هنا : مع كتاب جلسات نفسية.
وبالفعل، كان الوعد. بلغ هؤلاء الشباب، فحطوا رحال الفخر في رحاب كليات الصيدلة، بمعدلات تتوجت بإكليل الاستحقاق. أتدري ما الطموح؟ ليس أمنيّة نائمة في زوايا القلب، بل هو نار مقدسة توقظ النفس من سباتِها، ودافع إلهي يدفع الإنسان لتجاوز حدود الممكن. هو سلاح من لا سلاح له، وسفينة من لا شاطئ في متناوله.
قيمة المثابرة
وقد قال الحكيم: "إن المثابرة على الشيء هي بنت الإرادة وأم النجاح". وزاد نابليون: "لا تبلغ الغايات إلا بالعزم والمثابرة". وهنا آخر يردد: "النجاح كلمتان: الإيمان والمثابرة". فكل ما تراه من تقدم علمي واختراعات تهز العالم، ليس وليد المصانع العملاقة فحسب، بل هو ثمرة المثابرة المستمرة في معاهد البحث ومختبرات التجربة، حيث اليد تعمل والعقل يفكر والروح لا تكل.
ولقد
سُئل أحد العظماء: ما المثابرة؟ فأجاب بحكمة تشبه البحر:
أولاً:
الاستمرار في العمل: كالنهر الذي لا يكل عن الجريان.
ثالثاً:
بذل المحاولات المتكررة: كالطائر الذي يحاول الطيران مرارًا حتى يصبح السماء
مملكته.
ثالثاً:
الإعادة مع بعض التغيير الضروري: كالفنان الذي يعيد رسم اللوحة بزاوية جديدة حتى
تصبح رائعة.
فالفلّاح لن يجني ثمر أرضه إلا إذا صابر السنين، ولو قاومته العواقب لم يكف عن المحاولة، وفي عمله كثير من التكرار الذي يبني الجبال.
أمثلة ملهمة
ومن
بين من نحتوا طريقهم بأظافر الإرادة، يتألق اسم "ديموستين"، ذاك الخطيب
اليوناني الذي كانت التأتأة سجنا لصوته، فراه الجميع عجزًا عن البلاغة. ولكنه
بتصميم أصم آذان الشك، ومثابرة تتقاطر عرقًا، أصبح أعظم خطباء عصره، وصير عاهته
سُلّمًا لمجده!
وكذلك "ساندو"، ذاك الفتى الذي كان جسده نحيلاً يئن تحت أثقال الضعف. لم يقل لليأس: نعم. بل دأب على تدريب نفسه بالرياضة الصارمة، حتى صار في زمانه أقوى رجل، وصارت قصته نصًا منقوشًا في كتاب المعجزات الإنسانية. هؤلاء لم يكونوا أساطير، بل بشرًا مثلنا، أثبتوا بدم العزيمة أن الطموح والإرادة يستطيعان أن يصنعا من الحجر ماءً، ومن الظلام نورًا.
دور العلامة هادي المدرسي
وفي
هذا المسار المشرق، يتجلى لنا دور العلامة "السيد هادي المدرسي"، الذي
نسج سلسلة من الكتب النابضة تحت عناوين: "أساليب النجاح"، "عوامل
النجاح"، "مفاتيح النجاح"، "فنون النجاح"، و"يمكنك
أن تنجح". كتب تغرس في القلوب بذور الأمل، وتحلل سر انتصارات العظماء، وتقُص
حكايات واقعية لأناس صنعوا من اليأس سلمًا، ومن التعب نصرًا مبينًا.
فإذا
رأيتهم اليوم في زي الفخر الأبيض، واقفين في الصيدليات، عاكفين على التعلم،
منكفئين على كتبهم، يسألون ويسجلون، يراقبون ويتفكرون، فاشهد أن في عيونهم حديثًا
لم يُنطق:
"أنا
هنا... لأني حلمت.
أنا
هنا... لأني لم أستسلم.
أنا
هنا... لأني كنت أؤمن بنفسي حين كاد الجميع يشك بي!".
نعم،
ترى في تلك العيون بريقًا خاصًا، ليس بريق الذكاء فحسب، بل بريق الإصرار الذي
يخترق الحجاب، والعزيمة التي تصنع المعجزة. فترى نفسك لا تملك إلا أن تردد مع
الشاعر:
من رام وصل الشمس حاك ... خيوطها سببًا إلى آماله وتعلقا
الخاتمة
ختامًا:
الطموح هو صلاة القلب الخفية، ودعاء العقل الصامت، وهو تلك الشرارة الخالدة التي
تنير ليل الحياة الطويل. الطموح لا يولد مع الجميع، ولكنه يُغرس كالبذرة، يُسقى
بدموع التعب، ويرعى برعاية الصبر، حتى يثمر شجرة عظيمة تظلل الأجيال. ومن ثمارها
المعطرة، ينبُت شباب من تراب العراق، من حواري النجف الأشرف، الذين صنعوا من
المحنة منحة، ومن الضعف قوة تحطم الصخور.
فليكن
لكل واحد منا حلم كبير، يراه بعين اليقين قبل أن يخرج إلى النور، ويسعى له بقدم
العزم قبل أن يصفق له العالم. ولتنطق في أذن الزمن قوله تعالى: ﴿ والذين جاهدوا
فينا لنهدينهم سبلنا ﴾ (العنكبوت: 69).
وقد
قيل بحكمة تدق أبواب القدر: "إذا أردت أن تغير قدرك، فلا تكتفِ بأن تتمنى، بل
امضِ... واصنع الطريق بيديك".
فلنكن
جنودًا لطموحاتنا، ولنغذي أحلامنا بالجهد المقدس والعزم الذي لا يلين. الحياة بحار
من التحديات، لكنها أيضًا بحار من الفرص. فلنغتنم كل لحظة، ولنكن سروجًا تُنير لمن
ورائنا، ليروا كيف يفتح الطموح أبواب السماء بمفتاح الصبر.
وهنا
أقول مختتمًا:
لا
تيأسَنْ من طول درب وعِرٍ ... فالصبر مفتاح الفرج، وهذا أكيد
كم
من فتى أضحى أسير كسلٍ ... فأصبح ذليلاً، وهذا ليس يريد
واعلم بأن الله مع الصابرين ... فالعلا لا تنال
إلا بالجهود
إرسال تعليق