اليوم
الحادي عشر
من محبس الجن إلى آفاق الإيمان
الكاتب/ عبد الاله الشبيبي
المقدمة:
بعد
أداء صلاة الفجر والعودة إلى النوم - البرنامج الثابت في كل يوم -، ومع تباشير
الصباح استيقظنا من النوم وتوجهنا إلى طابق المطعم فكانت وجبة الفطور (شوربة وبيض
وجبن)، وعندما بلغت الساعة التاسعة صباحاً خرجنا إلى أحد الأسواق حيث أوصلنا سائق
الأجرة إلى هناك بالمجان، تجولنا فيه وتسوقنا بعض الأغراض، ثم عدنا إلى مقرنا بعد
أن ركبنا في الحافلة التي تحمل رقم أربعة وهي تسير ضمن محطات ثابتة.
عند
اجتياز محطتنا التي تقف عند بداية شارع صدقي ترجلنا منها لنجد صاحب سيارة حمل
محملة بالأغراض والألعاب وهو من أهل اليمن يتجول على الفنادق التي تقرب منا،
تعرفنا عليه وقد تحدث عن أوضاع اليمن وصعوبة الحياة فيها، كما أبدى إعجابه بكرم
أهل العراق وطيبتهم.
وعندما
حانت الساعة المحددة بدأت المحاضرة، إذ تحدث المرشد عن أعمال حج التمتع وهي ثلاثة
عشر عملاً، أولها الإحرام من مكة المكرمة، وخطواته نفس خطوات الإحرام من الميقات
(مسجد الشجرة) التي قمنا بها، إلا في حالتين: النية والمكان، كما يستحب الإحرام من
المسجد الحرام وأفضل المواضع عند مقام إبراهيم (u)
أو عند حجر إسماعيل (u).
موضع لبس الإحرام:
اختلف
الفقهاء في موضع لبس الإحرام؛ فمنهم من يقول بوجوب أن يكون من مكة القديمة([1])
على عهد النبي (ص)، وهذا رأي السيد الخوئي والسيد محمد الصدر (قدس الله أسراهم)،
أما السيد السيستاني (دام ظله) فيُجَوِّز الإحرام من مكة الحديثة، ومكة الحديثة هي
كل مساحة الحرم المكي التي تكون حدودها من الشرق طرف عرفة ومن الشمال التنعيم، ومن
الشمال الغربي الحديبية، ومن الجنوب الشرقي الجعرانة، حيث يغتسل المحرم في الفندق
ويذهب إلى الحرم، وهناك يعقد النية ويلبي، ويستحب رفع الصوت وتكرار النية، وتقطع
عند الزوال في يوم عرفة، وكل المحرمات التي تعرفنا عليها تنطبق حرمتها هنا.
وسيكون
الإحرام يوم الثامن من ذي الحجة في يوم التروية، سُمي بهذا الاسم لأن الحجاج كانوا
يرتوون فيه من الماء مع إبلهم في مكة ويخرجون به إلى منى، ففي ذلك الوقت كان الماء
قليلاً أو شبه معدوم ليكفيهم حتى اليوم الأخير من أيام الحج، وقيل سُمي بذلك لأن
الله عز وجل أرى إبراهيم (u) المناسك في ذلك اليوم.
وبعد
إتمام الإحرام نتوجه إلى عرفة ليلة التاسع ونقيم هناك بالدعاء والعبادة والصلاة
والذكر والاستعداد التام، ويكون الوقوف في عرفة من الزوال حتى غروب الشمس، وهنا
الوقوف يعني الحضور في أرض عرفات، سواءٌ داخل الخيام أو خارجها، قائماً أو ذاكراً
ومسبحاً مصلياً أو نائماً، إذ يكفي الحضور.
وسترى
هناك الحجيج من جميع أنحاء العالم، باختلاف الأجناس والأشكال واللغات، مع تشابه
الخيم والثياب، والكل يطرق باب الرحمن معترفاً بما يحمل من ذنوب، طالباً الرضا
والغفران، وسنكون داخل الخيم نقضي أغلب الأعمال بعد نية الوقوف بعرفة، فلا تتصور
أن الوقوف يكون تحت أشعة الشمس من الزوال إلى الغروب، بل يمكن لك أن تكون في أي
مكان، تفعل ما يحلو لك، المهم أن تكون في ذلك اليوم المُخصص هناك.
جبل الرحمة:
وهناك جبل اسمه جبل الرحمة([2])،
من المستحبات الوقوف عند سفح هذا الجبل وأن يُدعى بدعاء الإمام الحسين (u)،
ويستحب صيام هذا اليوم إلا لمن يضعفه عن الدعاء والمسألة.
والعلة من الوقوف في عرفة هي الاعتراف
بالذنب والخطايا والتهيؤ للدخول إلى الحرم الإلهي ومن ثم النزول إلى مزدلفة، والحج
الأكبر عرفة كما يقال، لأنه أعظم الأمور فيها والانحدار نحو المواقيت الاخرى، فمن
أداها على أتم صورة وأكمل وجه نال الفوز بالجنة وبرضوان الله سبحانه وتعالى.
فيا
أيها الحجاج، يا من لبستم الأكفان وتركتم الأوطان؛ اغتنموا الفرصة، فهي تمر مرّ
السحاب، والفرصة غصة كما يقول الإمام علي (u)،
تأتي بصعوبة وتذهب سريعاً، وتَزَوَّدْ منها قبل فوات الأوان، فلا ينفع الندم إذا
فات الوقت وزال، وعلى الإنسان الواعي أن ينتهز هذه الفرص ويستثمرها في الجد
والنشاط والعبادة وكسب رضا الرحمن، فلا يَصُدَّنَّكَ عن ذلك صوت الآخرين وجلوسهم
عن الحركة والعمل.
ثم
تطرق المُرشد إلى ذكر عدم الخروج من مكة بعد إتمام عمرة التمتع، إذ كنا يوم أمس
نتجول في أزقة مكة فلا نعرف حدودها الشرعية التي يجب عدم الخروج منها، فمن لم تكن
لديه حاجة ضرورية فلا يجوز له الخروج، هذا إذا رجع إلى مكة في ذي الحجة، وإذا خرج
قبل شهر ذي الحجة عليه أن يُحرم من الميقات ويعيد بقية الخطوات الأربع التي
أديناها في عمرة التمتع.
وهنا
وجَّه أحدهم سؤالاً: هل يجوز أن أطوف بالإحرام قبل أن أتوجه إلى الوقوف بعرفة؟
فكان الجواب: لا يجوز الإتيان بطواف مستحب سواء أكان بنية الإهداء أو الإنابة إذا
عقدت إحرام الحج، وهناك من يقول على الأحوط وجوباً الترك.
حتى
حان وقت صلاة الظهرين، وصلينا بإمامة المرشد في باحة الطابق الخامس عشر من الفندق
في منطقة العزيزية شارع صدقي، ذلك الحي الواسع الحديث الذي يشهد تطوراً وإعماراً
واسعاً وفنادق ضخمة متعددة الأجنحة والأقسام والطوابق.
توجهنا نحو الحرم:
وعند
الساعة التاسعة مساءً ارتدينا الإحرام وتوجهنا نحو الحرم، وإذ بنا نجد ساحة
الانتظار مكتظة بالحشود والحافلات قد أُمرت بعدم إركاب الناس إلى الحرم، فهناك
زحام شديد عند الحرم، والخطة تقتضي إفراغ منطقة الحرم من الحشود.
وبعد
برهةٍ من الوقت سُمِح للحافلات المباشرة بالعمل وفتحت الأبواب وتوجهت الحشود
إليها، وكان يقف بالقرب منا رجلان كأنهما من أفغانستان أرادا النزول فلم تقف لهما
الحافلة وصارا يضحكان كثيراً ومن ثم اتفقا على النزول في ساحة الحرم والرجوع إلى
محطتهما.
وبعد
أن عرفنا مسالك الدخول والخروج، دخلنا الحرم ووقفنا عند باب الملك عبد العزيز
وحددنا وقت الالتقاء وكل واحد ماذا يحب أن يمارس من أعمال، فمنهم من ذهب يُقَبِّلُ
الحجر الأسود، ومنهم من يطوف قدر ما يستطيع، ومنهم من يصلي، ومنهم من يلتقط الصور
ويتصل بالأهل والأصدقاء، حسب قوله تعالى: )قلْ
كُلٌّ يَعْمَلُ عَلَى شَاكِلَتِهِ فَرَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَنْ هُوَ
أَهْدَى سَبِيلاً(([3]).
معنى البيت العتيق:
وهنا
نوضح معنى البيت العتيق؛ إذ يمكن أن يكون مأخوذاً من العتق بمعنى الحرية، لأنه ليس
ملكاً لأحد غير الله سبحانه، كما يمكن أن يكون مأخوذاً من العتق وهو التقادم لأنه
مبني في الزمن القديم جداً. وعن أبي حمزة الثمالي قال: قلت لأبي جعفر (u)
في المسجد الحرام لأي شيء سماه الله العتيق؟ فقال: ليس من بيت وضعه الله على وجه
الأرض إلا له رب وسكان يسكنونه غير هذا البيت فإنه لا يسكنه أحد، ولا رب له إلا
الله، وهو الحرام، وقال: إن الله خلقه قبل خلق الخلق، ثم خلق الله الأرض من بعده
فدحاها من تحته.
أما
أنا فرحتُ أطوف حول الحرم ودموعي تجري على خدي وفكري يحلق في سماء الرحمن ورحمته،
وأتأمل في كيفية قيام الحرم وشروع الانطلاق من هذا المكان، وأنت تشاهد الأكف
مرفوعة تدعو وتتوسل بطلب المغفرة والرضوان، وتشاهد الجموع من أنحاء العالم كافة قد
وفدت إلى رب البيت ترجو الفوز بالجنان وغفران الذنوب وتقبل الأعمال واستجابة
الدعاء، ولسان حالها (ربنا ما لنا غيرك في النظر بأمرنا، وتعفو عن خطايانا، وترحم
ضعيفنا وتشفي جرحانا وتجبر خواطرنا، إنك سميع مُجيب).
بصوت عربي واحد:
ما
لفت انتباهي هو أن أغلب من كانوا يطوفون حول البيت من أجناس مختلفة كان لسانهم
عربي، فعندما كنت أسمع إلى دعائهم كان يتردد بصوت عربي واحد، كثيراً ما كنت أسمع:
(ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار)، كما كنت أسمع: (ربنا
عفوك، ربنا رضاك، ربنا أدخلنا الجنة).
هكذا
انتهى يومُنا الذي ودّعنا فيه الحرم المكي وعُدنا إلى الفندق عند الساعة الواحدة
بعد منتصف الليل، نطوي بهذا يوماً من أيام رحلتنا في الحج، التي نأمل أن نُكتب
فيها من حجاج بيت الله في هذا العام وفي كل عام، وأن يتقبل منا صالح الأعمال، إنه
واسع المغفرة وسميع الدعاء.
وتبقى
الذكريات تتلألأ في النفس كنجوم في سماء الإيمان. لقد كانت لحظات الطواف حول
الكعبة تجسيداً لعمق العبادة والتواصل مع الخالق. نسأل الله أن يظل نور هذه
الذكريات مشعاً في قلوبنا، وأن يجعلنا من المقبولين والمغفور لهم، فالحج ليس مجرد
مناسك، بل هو رحلة إلى الذات، وعهدٌ مع الرحمة والغفران.
([1])
مكة القديمة: المكان الذي يحيط بالحرم المكي، الذاهب إلى هناك يعرف المكان
المُخصص، فإذا وصلت قرب الحرم، فمن الأفضل عقد النية من داخل الحرم، وبالخصوص قرب
مقام إبراهيم أو حجر إسماعيل.
إرسال تعليق