ساعة من الحوار مع المختار.
المقدمة:
ثمة لحظات في الحياة لا تُقاس بالوقت بل بعمق الشعور، ولا توزن بالدقائق بل بوزن الذكريات والحنين. تلك كانت لحظتي، حين جمعتني ساعة حوار مع "المختار". لكنها لم تكن مجرد ساعة، بل كانت زمنًا مكتنزًا بالحياة، ومرآة عكست في وجهي أعوامًا من التجارب، ومرافئ من الذكرى، وأصواتًا لم يطفئها الغياب.
الصداقة: النسب الذي تختاره الروح
الصداقة الحقة هي الألفة التي تهبها لك الحياة خارج إطار النسب. إنها ذاك الحبل الممتد بين الأرواح، يُشدّ حين تشتدّ بك الحياة، ويسترخي حين تنعم بالسكينة. وهي الرابط الذي لا يقطعه البعد، ولا تمحوه مشاغل الدنيا، وإن طال الانقطاع. في ساعة الحوار تلك، استشعرت كيف أن الصداقة، حين تكون صادقة، لا تحتاج إلى مقدمات ولا اعتذارات، يكفي أن تلتقي، حتى تعود المياه إلى مجاريها، وكأن الزمن لم يُحدث شرخًا بينكما.
كم من مرة مرّت علينا السنون ونحن نُسابق الريح في مضمار المسؤوليات! نركض بين العمل، ومتطلبات الأسرة، ودهاليز العمر المتسارع. ولكن رغم كل ذلك، تبقى خيوط الودّ مخبوءة في القلب، تنتظر لحظةً تُبعث فيها الحياة من جديد. ولعلّ لقاءنا ذاك لم يكن إلا استجابة لنداء قديم في دواخلنا، نداء الذكريات والوفاء.
الخلود،، هل يمكن أن يعيش الانسان طويلا؟.
الذاكرة: تلك الطفلة التي لا تكبر
جلسنا، وقد بدأت الذاكرة تسرد علينا حكاياتها. عدنا إلى زمن المعهد، إلى أروقة الدراسة، ونقاشات المحاضرات، والطرف والنوادر التي كنا نتبادلها، كأننا نؤثث بها أيامنا. كانت أصواتنا آنذاك عالية، وأحلامنا أكبر من جدران القاعات، وكانت قلوبنا تحلم بعالم لا حدود فيه للنجاح.
ما أجمل أن تعود إلى تلك الأيام، لا لتندم، بل لتبتسم. لتدرك أن كل لحظة عشتها، حتى وإن بدت عابرة، كانت تبني شيئًا في داخلك. كانت تصنعك دون أن تدري، وتحفرك على مهل، كما تنحت الرياح الجبال بصبر الأزمنة.
الرحلة: حين يسير الجسد وتتأمل الروح
في خضم ذلك الحديث، أهديت صديقي كتابي الأخير: "الرحلة المكية". ذلك الكتاب الذي سطّرت فيه تجربتي في حج عام 1445هـ. ثلاثون يومًا ليست مجرد عدد، بل دربٌ طويل قطعته الروح قبل أن يقطعه الجسد، من زحمة الحياة إلى سكينة الحرم، من ضوضاء العالم إلى هدوء الدعاء.
رأيت في عينيه فرحًا خالصًا، وهو يقلب صفحات الكتاب. لم يكن يقرأ، بل كان يتنقل بين لحظاتي، وكأنه عاشها معي. وهذا ما تفعله الكتب حين تُكتب بصدق: لا تنقل المعلومات فقط، بل تنقل الحياة.
الكتاب لم يكن مجرد وصف للرحلة، بل كان مرافعة روحية أمام القلب. سطّرت فيه معاني الفقد، والرجاء، والوقوف بين يدي الله في عرفات، تلك اللحظة التي تذوب فيها الحواجز، وتنكشف فيها النفس أمام خالقها. وكان بين كل محطة ومحطة، شعور لا يُحكى، لكنه يُعاش.
في رحاب الفكر والإنسان
لم يكن لقاؤنا حديثًا عن الماضي فحسب، بل امتد الحديث نحو الواقع، نحو ما نعيشه اليوم من تغيرات وتحديات. تحدثنا عن القيادة، عن المجتمع، عن التحولات التي يشهدها الناس في أخلاقهم، في طموحاتهم، في علاقتهم بذواتهم.
كان المختار يفيض بالحكمة، كعادته، لا يكتفي بالتأمل، بل يُنير زوايا مظلمة في الفكرة، ويُعطي لكل رأي وزنه، ولكل موقف خلفيته الأخلاقية. وبينما كنا نغوص في أطياف الحوار، قال لي: "لنذهب إلى صديق آخر، له في الخير نصيب، وفي العمل الاجتماعي قدم راسخة، وأدبٌ رفيع لا يخطئه منصف".
المسير: طريق مضاء بالأنس والصمت
انطلقنا في سيارة تمضي في ليل هادئ، لا يُسمع فيه سوى صدى المحبة بين المحطات. الطريق كان ساكنًا، لكن القلوب عامرة بالحديث. وما إن وصلنا حتى استقبلنا صديق المختار بابتسامة تشي بنُبل المعدن وكرم الضيافة. وقفنا نتحدث عن الكتب والمكتبات، عن مشاغل الحياة وضجيج العالم.
في ذلك اللقاء، شعرت أن الحديث عن المعرفة ليس ترفًا، بل ضرورة. فالمعرفة تمنح الإنسان قدرة على الفهم، وتُهذّب روحه، وتجعله يتعامل مع الحياة برفق لا بتهور. وكلما تحدثنا عن المؤلفات والتأليف، أدركنا أن الكلمة حين تُكتب بنية الخير، تتحول إلى صدقة جارية، تعيش بعدنا، وتُضيء دروبًا لم نرها.
الوداع: نهاية اللقاء وبداية الذكرى
حين حان وقت الفراق، لم يكن وداعًا بالمعنى المعتاد. كان ختامًا لتجربة روحية، وجلسة من الصفاء، ولقاءً يُكتب في دفتر الأيام بلون مختلف. افترقنا على محبة، على وعد غير منطوق بأن اللقاء باقٍ ما بقيت النوايا نقية.
في الختام
ليست الساعة التي قضيتها مع المختار مجرد لقاء، بل كانت كشفًا عن عمق العلاقات التي تربطنا، وتأملًا في معنى الزمن والذكرى، واحتفاءً بالروح حين تبوح. علّمتني تلك الساعة أن الصداقة ليست حضورًا دائمًا، بل وفاءً لا يخفت. وأن الرحلة إلى الله قد تبدأ بخطوة، لكنها لا تنتهي إلا بلقائه. وأن الحديث الصادق، مهما قلّ زمنه، قد يُعيد ترتيب ما بعثرته الحياة في داخلنا.
نعم، كانت ساعة واحدة... لكنها كانت عمرًا من الجمال والوعي والنقاء.
إرسال تعليق