U3F1ZWV6ZTM3NDI4MTc4MTgxNzE1X0ZyZWUyMzYxMjkzMTI0MzgyNg==

الرحلة المكية، اليوم الثالث الدخول الأول للمسجد النبوي والبقي

اليوم الثالث
الدخول الأول للمسجد النبوي والبقيع

                                                                                                    من كتاب الرحلة المكية


 الكاتب: عبد الاله الشبيبي

المقدمة:

بعد أن انتهى اليوم الثاني وحططنا الرحال في الفندق الذي أقمنا فيه، وأتم الحجاج ترتيباتهم الخاصة، هدأت الأصوات نوعاً ما، فقال لي أخي: أتحب أن نذهب إلى المسجد النبوي؟ وكان الوقت قد تجاوز الواحدة بعد منتصف الليل. كنت مُتردداً بين الرفض والقبول لأنّ تعب الأمس قد أخذ منّا مأخذاً كبيراً، ولكن التوجه إلى حرم النبي له أهمية كبيرة، وهي المرة الأولى التي تحط بنا الرحال هنا، وكان موقع الفندق قريباً جداً، فما هي إلا خطوات لتجد نفسك في المسجد النبوي. بعد أن عرفنا اتجاه المسير قلت له: جاهز لنتوكل، قال: وأنا أيضاً.

اول لحظات الدخول:

جهَّزنا أمرنا ونزلنا من الطابق السابع وراحت أرجلنا تحثّ الخطوات سريعاً والقلب يخفق والعين تدمع ونحن نشاهد المسجد النبوي وقبر الحبيب المصطفى عن قرب وندخل إليه في حالة من الروحية والطمأنينة النفسية والأجواء الإيمانية، يا إلهي! هل هذا حلم أم نحن عند قبر الرسول فعلاً؟

دخلنا المشهد العظيم بعد أن حددنا مكان دخولنا من الباب الرئيس الذي يحمل رقم (65)، سرنا مع الركب الذي يمر من باب السلام وينتهي من الطرف الثاني، ما أسعدك أيها العبد الفقير! وأنت ترى هذه الأماكن والمشاهد العظيمة وبالخصوص مرقد الحبيب المصطفى، وتقف لتأخذ له التحية بإجلال وتسلم عليه، وأنت مغمور بالخشوع والخضوع وجريان الدموع.

تكتسب الاهية والقدسية:

فإن الأماكن تكتسب الأهمية والقدسية من أصحابها، وصاحب هذا المكان هو أعظم رجل عرفهُ التاريخ الإسلامي، فقد ترك بصماتٍ وأثراً في الواقع، حتّى تغنى به العديد من الكتاب والفلاسفة، وجعلوه على رأس قائمة أعظم مائة رجل في التاريخ.

جلسنا ندعو ونصلي أول الصلوات في الباحة الخارجية، ونحن في حالة من التيهان الفكري والعقلي، نعيش الأجواء الإيمانية الرحمانية، ونشكر المُنعم المتفضل الذي سهل لنا الخطوات وطيّ المسافات وتحدي أهواء النفس والملذات. ساعتان كأنهن لمح البصر، عدنا بعد انقضائهما إلى الفندق في وقت متأخر، وراح طائر الخيال يغرب ويشرق مع التأمل فيما هو فيه.

قلبي ابيض:

نمتُ على ذلك السرير الأبيض وقلبي كان أبيض في تلك الليلة الأولى التي تطأ فيها قدماي أرض المدينة المنورة، تلك المدينة التاريخية التي استوطن فيها الرسول سنوات وهو يدعو الناس إلى التوحيد وعبادة الرحمن وتحدي الظلمة والطغاة، فشنت عليه الحروب والغزوات، لكنّه انتصر في أغلبها ورفع شأن الإسلام لأعلى الدرجات، حتى انتشر وصار محور الكون والكائنات.

مع ساعات الصباح الأولى توجهنا إلى الحرم وسُمح لنا بالدخول لزيارة أئمة البقيع، وبقيع الغرقد أرض واسعة تخلو من الصخور والأحجار، ولها عند المُحبين مكانة خاصة واهتمام كبير، وكنتُ أطيل النظر والتمعن في هذه الأرض التي كم وكم حكى لنا المؤرخون عنها وعن الشخصيات التي دفنت فيها.

عند البقيع:

فقد دُفن فيها الإمام الحسن والإمام السجاد والإمام الباقر والإمام الصادق عليهم السلام، بالإضافة إلى زوجات النبي، وفاطمة بنت أسد، وأم البنين، ومن سواهم. وهي أرض شرفها الله عز وجل بهذه الأسماء الكبيرة والجليلة من العترة الطاهرة عليهم السلام، وقد حاولنا الوقوف وقراءة الزيارة في ذلك المكان لكنّ رجال الأمن لم يسمحوا لنا، فهم واقفون على أعتاب الطريق ويلوحون بأيديهم، ولسانهم لهج بكلمات من قبيل: تحرك يا حاج، لا تقف يا زائر، لا تسبب الزحام يا سيد، لكنّ الحشود الكبيرة رغم ذلك تدخل إلى هذا المكان وتخرج منه.

خرجنا وقلوبنا يعتصرها الألم والكمد، وأبصارنا يشوبها الانكسار وهي ترى أئمتها وسادتها في ظلم طويل ومستمر، لأنّ منع أنصارهم وأحبابهم من التبرك بهم وزيارتهم وتلمس موضع قبورهم ما هو إلا ظلامة دائمة عليهم، وهو ليس شركاً ولا تعدياً، فنحن نتقرب بهم حين نلمس أماكنهم، ولا نعبدهم ولا نشرك بالله في زيارتهم، كما هو حالنا مع القرآن الكريم عندما نُقبله، فنحن لا نشرك بالله عند تقبيل المصحف، وإنما نفعل ذلك من باب الاحترام والتقديس والتبجيل والأهمية.

عندنا الى الحبيب:

ثمّ توجهنا إلى قبر الرسول ودخلنا المسجد النبوي، وراحت قلوبنا ترفرف لما رأت وشاهدت من حشود متجمهرة وأجناس مختلفة وانتماءات متعددة، وهي تدعو وتتوسل بالرسول لحفظ الأمة والأهل والعيال والأصحاب، وتُمنع من المصافحة والتقبيل لقبر الرسول، إذ يقف رجال الأمن حائلاً بينهم وبين موضع القبر. ثم عاودنا الدخول وكان يرافقنا المرشد الذي أوضح لنا بعض الأمور، ومنها موضع قبر النبي ومكان منبره المقدس، وما بينهما من مسافة ليست إلا روضة من رياض الجنة كما قال رسول الله (ص)، وهذه لعمري أعظم الأماكن التي شهدها التاريخ الإسلامي، فهنيئاً لمن أعد واستعد وتزود خير الزاد.

أخذنا بعدها قسطاً من الراحة، وعدنا إلى الحرم وتجولنا في أماكن أخرى داخله وتعرفنا على العديد من المداخل والمخارج ذات المساحة الواسعة في المسجد النبوي، وذهبنا إلى الجهات الجنوبية والشمالية، ولم نترك زاوية من زوايا المسجد إلا وأطلنا النظر فيها وصلينا عندها.

اهمية المدينة المنورة:

وفي الساعة الحادية عشر والنصف صباحاً جلس المرشد يحدثنا عن أهمية المدينة المنورة والذهاب لها، وعن ضرورة استثمار هذه الأيام بالزيارة، وأن الله عز وجل حثّنا وندبنا لزيارة هذه المشاهد والأماكن المقدسة، ولا بد من وجود حكمة في هذا الحثّ، فما يريده الله منا هو التأسي بهم، والتقوى، وتحصين المؤمن، )لَّقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِّمَن كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا(([1]). والاقتداء بهديهم واتّباع سيرتهم منهجاً عملياً وعرفانياً. فالاقتداء بسيرة الرسول (ص) الذي عُرف بالصادق الأمين لا يكون إلا بالتحلّي بالصدق والأمانة، وهما مِن أجمل الصفات والفضائل الأخلاقية، وكذلك أن تقتدي المرأة بالسيدة الزهراء وأن تمتثل بما كانت تقوم به من حكمةٍ وصبرٍ ورعايةٍ لشؤون العيال، فهي نِعم المرأة الكادحة المُعينة المُساعدة المُناصرة لزوجها وعيالها. بالإضافة إلى استثمار وقتنا الثمين هنا في العبادة والذكر والدعاء والزيارة، فنحن هنا ضيوف طارئون، ولكي نحصل على الأجر العظيم من الله عندما نكون بقرب هذه المشاهد لا بد أن نأتيها كل يوم صباحاً ومساءً وأن نتعلم الأحكام التي تصحّح أعمالنا، لأنّ صحة الأعمال من صحة المقدمات، وأن نتقن مقدمات الصلاة من وضوء وطهارة، وأن ندعو الله بقلب كسير عارف متأمل مدرك بصير.

اسرار الشخصية الناجحة.

من هنا:

فنور الإسلام انطلق من هنا من المدينة المنورة بعد أن هاجر إليها الرسول من مكة وسكن فيها، وقد تضمنت أماكن عديدة مقدسة ومعالم تاريخية، أهمها المسجد النبوي، ومسجد قباء، ومكان انتظار الإمام علي (u) مع الفواطم. أمّا الأرض التي بُني فيها المسجد النبوي فكان قد اشتراها النبي من أبي أيوب الانصاري وفي كَنَفِهِ سهل وسهيل، فكانت الأرض لهذين اليتيمين، وقد أراد النبي أن يُبنى المسجد حيث تَبْرُك ناقَتُه التي قال عنها (اتركوها فإنها مأمورة) كما ورد في النقل التاريخي للسيرة النبوية، ومن هذا المسجد أخذ النبي (ص) يدير شؤون دولته الاجتماعية والاقتصادية والسياسية.

اسطوانات المسجد:

وفي داخل الحرم قرب الروضة توجد أسطوانات، منها أسطوانة التوبة التي يُستحب أن يجلس عندها الشخص ويطلب التوبة من الله، وقصتها أن النبي (ص) أقام بينه وبين بني قريضة حلفاً، لكنّ شخصاً اسمه أبو لبابة أخبرهم بأن مصيرهم القتل، وهكذا ظنّ أنه خان، فجاء إلى هذا المكان وأمر ابنته أن تربطه حتى يتوب الله عليه، وبقي أياماً مربوطاً فيها ثم نزلت فيه آية التوبة وحلّ رسول الله وثاقه، حيث قال تعالى: )يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَخُونُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَمَانَاتِكُمْ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ(([2]).

وفي الحرم كذلك أسطوانة المخلقة التي كانت تُحمّر أو تُعطّر بالخلوق، وقد قيل أنّ الخلوق هو طِيْبٌ كان قد وُضِع عليها فَسُرَّ النبي بذلك وصار هذا أول طيب للمسجد النبوي. وفيه أسطوانة السرير، وهي ملاصقة للشباك، وأسطوانة الوفود، وأسطوانة الحرس، وأسطوانة التهجد، وأسطوانة القرعة، وأسطوانة مربعة القبر، هذه كلها داخل الروضة التي قال عنها رسول الله (روضة من رياض الجنة)، ولا يدخل إلى هذه البقعة إلا من رُخص له الدخول وحمل معه الترخيص، وله وقت قصير يصلي ويدعو فيها.

دكة الصفة :

وهناك مكان مرتفع كان يقف عنده (بلال) ليؤذن بالمسلمين، ومكان آخر يسمى بـ(دكة الصفة) الذي يُباع فيه الفقراء المهاجرون، ومقام إبراهيم (u)، ومقام جبرائيل (u)، وخلف القبر يقع بيت الزهراء (عليها السلام) ([3]) الذي كان يسكن فيه الإمام علي (u)، لكنّه مُغلق ولا يُسمح بالوصول اليه. أضف إلى ذلك أنّ أغلب هذه الأماكن قد طرأ عليها التعديل والمحو والاندثار لأسباب معلومة أو غير معلومة من قبل السلطات السعودية. أمّا ما يخصّ مَنَاسك الحج ففيه أمور كثيرة، إذ يُقسم إلى عمرة التمتع وحج التمتع وكلاهما يطلق عليه حجة الإسلام، وهي واجبة على من يستطيع. ثمّ عرّج المرشدُ إلى ما سنقوم به خلال وجودنا في المدينة المنورة من أعمال وزيارات، منها الذهاب إلى أهم الأماكن كجبل أحد، والمساجد السبع، ومسجد قباء، وغيرهم. وبعدها أقمنا الصلاة جماعة بإمامة المرشد الذي أخبرنا بأن إتمام الصلاة هنا جائز.

توجهنا بعد ذلك إلى طابق إعداد وجبات الطعام، وكان أمامنا طابور طويل في الانتظار، فوقفنا فيه حتى حان دورنا، ثم أخذنا طبقاً فارغاً وضعنا فيه التمن والدجاج، واخترنا من مرق الباذنجان والبطاطا وغيرها ما نشاء، مع عبوة لبن صغير وخضرة فيها أوراق الفجل وخمس قطع من التمر المُعلب، وكانت بحمد الله تكفي لقوت اليوم.

مع كتاب جلسات نفسية.

فخامة المكان وعظَمة الإنشاء:

ومن ثم ذهبنا إلى المسجد النبوي ورحنا نُطالع فخامة المكان وعظَمة الإنشاء والهندسة العمرانية، وحين جلسنا قرب إحدى الأسطوانات الخارجية بدأت أقرأ سورة يس ومحمد والطور والفتح، ثم قرأت زيارة النبي (ص) والسيدة الزهراء (عليها السلام)، وبعدها قال أحد المرافقين لي: سأذهب إلى الفندق لأصلي خلف المرشد، فقلت له: أريد أن أبقى لأصلي خلف إمام المسجد جماعة لأطّلع على كيفيّة الصلاة عن كثب وما فيها من مضمون ومحتوى، فهنا تعيش شعور الروحية والمعنوية والإيمان العالي والتفاني.

وبعد أن حان وقت الأذان كبَّر المؤذن ورحت أصلي مفرداً صلاة المغرب، وبعدها أعاد الأذان فنهض المصلون ونهضت معهم أصلي ولكن بالي مع آلية الصلاة وكيفيتها، إذ قرأ بعد سورة الحمد ما تسير من السور ذات الحجم المتوسط، وبعد أن أتمها قال المُعقب: (صلاة الأموات يرحمكم الله)، وهي عبارة عن ثلاث تكبيرات بلا سجود قد صليتها مع الجموع، ومن ثم رحت أصلي صلاة العشاء لوحدي كونهم لا يجمعون صلاتي المغرب والعشاء في وقت واحد.

عند مسجد الغمامة ومسجد ابي بكر:

وعند الساعة التاسعة والنصف مساءً عُدتُ إلى باحة الحرم مع مجموعة من الحجيج، وتوجهنا نحو مسجد الغمامة أحد المساجد التاريخية، ويقال إن غمامة قد حجبت الشمس عن الرسول أثناء صلاة الاستسقاء فسمّي بهذا الاسم، وتم بناؤه وتوسعته في عهد عمر بن عبد العزيز. كما سرنا نحو مسجد أبي بكر والتقطنا أمامه صوراً تذكارية مع الشيبة المباركة التي كانت ترافقنا وتقيم معنا في نفس الفندق.

هذا موجز سريع عما مررنا به في هذا اليوم من محطات وأحداث وزيارات، وهناك أمور لم تُذكر إما لضيق الوقت أو لأنّ الذاكرة لم تستطع استرجاعها خلال ساعة الكتابة والتدوين، أشكركم على سعة صدركم وقراءتكم لهذه الجمل والعبارات التي سطرت، وأتمنى لكم الصحة والسلامة، ولم أنسَكُم من الذكر والدعاء عند هؤلاء العظماء الذين شيدوا التاريخ فخلدهم بخلوده.

ايام الحج:





([1]) سورة القيامة: الآية 21.

([2]) سورة الأنفال: الآية 27.

([3]) البيت كان متصلاً بالمسجد النبوي، وهو مكان قبر السيدة الزهراء على حد قول بعض الروايات. 

تعليقات
ليست هناك تعليقات
إرسال تعليق

إرسال تعليق

الاسمبريد إلكترونيرسالة