U3F1ZWV6ZTM3NDI4MTc4MTgxNzE1X0ZyZWUyMzYxMjkzMTI0MzgyNg==

الرحلة المكية، اليوم التاسع عند جبل أبي قبيس وبيت خديجة

 

اليوم التاسع
عند جبل أبي قبيس وبيت خديجة

 الكاتب/ عبد الاله الشبيبي

المقدمة:

بعد إتمام القسم الأول بمراحله الخمس ألا وهي عمرة التمتع بصورتها الصحيحة وشروطها المعهودة؛ سنقف لاستراحة قصيرة، وبعدها نشدّ الحزم ونعقد النية لأداء حج التمتع من حجة الإسلام، والتي سنتعرف على مضامينها في الأيام القادمة.

ولكننا سنواصل كتابة رحلة الأيام، لنتعرف على تفاصيل الحياة هنا في مكة المكرمة وطبيعتها وأهميتها والتجوال في أزقتها والاطلاع على أهم المعالم التاريخية فيها، لمكة أهمية كبيرة في قلوب المسلمين والمؤمنين، فهي قبلتهم، وموضع بيت ربهم، ومحط رحالهم، وفيها حدثت أمور كثيرة ومعجزات عديدة.

من أين بلد أنتما؟:

بعد صلاتي المغرب والعشاء ذهبنا صوب دهاليز طرق مكة، ورُحنا نتجول لوحدنا بدون دليل ونسير على أرجلنا ونقطع شارعاً شارعاً حتى أضعنا الطريق الصحيح، إذ اشتبهت علينا الجادة التي توصلنا إلى الحرم وسلكنا طريقاً غير الذي نريد، فلا يوجد من يدلنا على المسار الصحيح، وهذه كانت أول مرة ننزل بها إلى ذلك!

وقفنا في مكان مخصص لوقوف الحافلات، وانتظرنا فترة من الزمن فلم يقف أحد، حتى جاء رجلان يبدوان أجانب وجلسا على المسطبة وراحا يتحدثان بلهجتها، فلم نفهم من حديثهما شيئاً، اقترب منهما من كان يرافقني وسألهما من أين بلد أنتما؟ فلم يفهما السؤال، فكرر عليهما العبارة مع الإشارة، فقالا له بصعوبة: نحن من تركيا، أنتم عرب؟ فأجاب: نعم نحن عرب، من العراق، (آآ، من باكستان، لا من العراق، أفغانستان، لا عرب من العراق، آآ، اراك صدام يس يس)، فضحك الجميع من ذكر صدام، إذ لم يعرفا من العراق إلا اسم صدام السفَّاح الذي بقي رمزاً للّعن والدليل الظالم كما بقي يوسف الحجاج دليلاً على الظلم والجور.

مضى شطرٌ من الوقت ولم تصل أي حافلة، فكان الاقتراح أن نعود في الطريق نفسه حتى رأينا أحد الفنادق قد كُتب عليه (سكن حجاج العراق)، فعبرنا الطريق من المكان المخصص لعبور المشاة، ورحنا نسأل سائق الحافلة التي تقف أمام الباب هل تذهب هذه الحافلات إلى الحرم؟ قال لا، هذه الحافلة مخصصة فقط للحجاج الذين قد نزلوا هنا.

لم نطلع على مخارج ومداخل الطرق:

عدنا من حيث أتينا، ونحن في طريق العودة وجدنا حافلة متوقفة وفيها مشكلة وهي تحمل رقم ثمانية، وكان المتعهد قد ذكر أن رقم ثمانية هو رقم الحافلة والفندق المخصص لأهل العراق ممّن سكن في شارع صدقي أو ما يجاور ذلك، وهنا تنفسنا الصعداء والحمد لله حيث وجدنا من يوصلنا إلى ذلك المكان الذي تعرفنا عليه أول مرة.

ركبنا مع الحشود ورحنا نُخفض أصواتنا كي لا يكتشف أمرنا أو يفتضح موقفنا، فلا نريد لأحد أن يطلع([1]) على ذلك، وسارت بنا مسافةً حتى وصلت إلى منطقة رمي الجمرات والتي تعرف بمنى، فقال لي صاحبي تبين أن المسافة قريبة، ولكن نحن لم نطلع على مخارج ومداخل الطرق بعد!

وصلنا المحطة التي تجتمع فيها الحافلات، ومن ثم لا بد من ركوب حافلة أخرى كان بينها وبين الأولى جدار من القطع البلاستيكية فقط، وهنا يكون لون الحافلات أصفر وقد كتب عليها (حافل) وهي مخصصة لنقل الحشود من منطقة (الششة) وقريب عليها رمي الجمرات إلى الحرم.

وسارت بنا حتى دخلت نفقاً طويلاً قد شُقَّ في وسط الجبل، فقلت لصاحبي: نحن الأن نسير داخل الجبل، وأينما تولّي وجهك ترى الجبال، وما إن وصلنا الساحة المخصصة للوقوف وقع نظري على جبل كبير فقلت لصاحبي: أتعرف ما اسم هذا الجبل؟ قال: لا، فقلت له: يُطلق عليه جبل (أبي قبيس)، فقال: كنت قد سمعت عنه، ولا أعرف ما قصته، وهو أقرب جبل إلى الحرم وله مكانة وأهمية عند رسول الله (ص)، وسُمِّي بهذا الاسم نسبة إلى أبي قُبيس الرجل المعروف في مكة، أو لمن قام بالبناء عليه، وقيل سُمِّيَ بأبي قبيس لأن الحجر الأسود اقتُبِس منه.

مكة تحيطها الجبال:

وتُشكِّلُ الجبال في مكة المكرمة قيمةً تاريخيةً ومعالمَ حضارية وأهمية إسلامية، ومنها ما تكون مرتكزات عبادية كجبل عرفة الذي سيقف عنده الحجاج في اليوم التاسع حين النزولِ منه والتوجهِ إلى مزدلفة، وغيرها من الجبال الشاهدة على الأحداث والمواقف، وإن كان الزائر إلى مكة أول وهلةٍ يستغرب الأمر، إلّا أن أهل مكة أدرى بشعابها، فهم يعرفون مداخل ومخارج الطرق وارتباطها والجبال التي تحيط بها.

ثم توجهنا إلى الحرم وارتأينا هذه المرة أن نسلك طريق الصعود إلى الطابق الثاني من الحرم والاطلاع على بَكةّ من الأعلى، وكلنا يعلم أن (بكة) ومكة مفردتان وردتا في القرآن الكريم؛ الأولى تشير إلى الموضع الذي يطوف حوله الحجيج، أما مكة فهي المدينة الكبيرة التي تضم بيت الله ومن ضمنها بكة والمسجد الحرام والكعبة المشرفة. كما قال تعالى: )إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا وَهُدًى لِلْعَالَمِينَ(([2]).

عند البيت الحرام نطوف ونسعى.

من هنا الطواف ومن هنا المسعى

راحت أرجلنا تحثّ الخطوات حتى وصلنا إلى المدخل الرئيس الذي كُتب عليه (من هنا الطواف)، وإلى الجهة الأخرى (من هنا المسعى)، فتوجهنا إلى الطواف وإذا به مكتظ بالحشود والطائفين، ثمّ حددنا مكان الحجر الأسود ورحنا نطوف مع الجموع ونلبي وندعو ونتوسل بالله عز وجل أن يحفظ الأمة والعيال والأطفال، ومن كان قد أوصانا بالدعاء والسلامة، إذ تعيش الروحية والمعنوية عندما تشاهد أعظم المشاهد في أعظم الأماكن.

وأنت ترى ذلك المنظر تأخذك التأملات في عظمة الخالق الذي أراد أن تطوف العباد حول هذا البيت، وتأخذ منه رمزية واحدة وتوجهاً واحداً وهتافاً واحداً، وأن تعترف هذه الحشود بأن القيادة والريادة لمن بيده مقاليد الأمور، فهو الذي يحركها ويسيرها كيف يشاء وأنى يشاء ومتى يشاء، وإليه تتوجه القلوب والنحور وتطوف حول بيتهِ العباد.

يعدل أربع أشواط من المكان الأرضي:

وحين أتممنا طواف شوط واحد قال لي صاحبي: الشوط الواحد هنا في الطابق الثالث أو الثاني يعدل أربع أشواط من المكان الأرضي، لكون المسافة في الأرضي أقرب وأكثر تأثيراً وتعلقاً من التي تكون في الأعلى، ولا شكّ أنَّ النظر إلى الكعبة وجدرانها بحدّ ذاته عبادة، فما بالك بالطواف والصلاة فيها والجلوس عند مقام إبراهيم مع الذكر والدعاء والاستغفار والصلاة.

أضف إلى ذلك؛ لا يجوز الطواف والسعي في الطوابق العلوية إذا كان طوافاً أو سعياً واجباً، أما الصعود إلى الأعلى والاطلاع على ما يوجد هناك لا ضير فيه ولا إشكال، وفي إحدى المرات صعدنا على سطح الكعبة ورحنا نشاهد الأمر من هناك، وقد سألنا أحد رجال الأمن عن عدد الطوابق فقال أربع، وأنتم الآن على السطح الأخير. أما بخصوص أصحاب العربات فيجوز لهم الطواف في الطابق المخصص للعربات فقط.

المساعدة في التوزيع:

عدنا بعد منتصف الليل، بعد هدوء الأصوات ونوم الحجيج، وتم توزيع وجبة العشاء (سفري) حيث يجلبها المتعهد إلى الطابق، ومن ثم نقوم بتوزيعها على الغرف، وهي تختلف مع الأيام، فيوم كباب، ويوم دجاج، ويوم كنتاكي، ويوم بركر، وغيرها، مع اللبن والصمون والفواكه من الموز والبرتقال وقطعة من الحلوى.

وكنت كلّما ساعدتُ أحدهم عندما يحين موعد وجبة الطعام بطرق باب غرفته وإيصالها إليه؛ أسمع منه عبارة (الله يرحم "أميمتك")، كانت تلك الكلمات تلامس قلبي وتمنحني شعوراً عميقاً بالرضا، وهذا ما كنت أسعى إليه وأطير من الفرح بسببه وأنا أكسب رحمة لتلك السيدة العظيمة التي كانت تشتاق إلى هذه الديار المقدسة لأداء مناسك الحج، وتتابع أخبارها بشغف في كل عام، ولكن هذا هو أمر الله عز وجل وإرادته ومشيئته.

في الختام:

كانت هذه جولتنا الإيمانية ورحلتنا العبادية في الديار المقدسة التي مر يومها التاسع سريعاً بعد أن مرت الأيام أسرع منه، لأن مكوثنا في مثل هذه الأماكن العبادية والمعالم التاريخية يزرع فينا حب الاطلاع ومعرفة ما جرى وما حدث لها، ولهذا نحاول أن نتوصل إلى بعضِ التفاصيل والاهتمام بتلك المواقع التي نصل إليها ونتعرف عليها عن قرب.

إن كل لحظة قضيناها هنا كانت بمثابة درس في الإيمان، يعيد تشكيل أرواحنا، ويعمق ارتباطنا بتاريخنا وديننا. في هذه الأجواء الروحانية، تتجلى معاني الرحمة والمحبة، وتُعزز فينا القيم النبيلة التي تسري في عروقنا. هنا، حيث تلتقي قلوب المؤمنين، نجد أنفسنا في رحلة لا تنتهي، رحلة تعيدنا إلى جذورنا، وتربطنا بأجدادنا الذين شقوا الطريق إلى هذه البقاع الطاهرة.

فلنستمر في مسيرتنا، نُعزز من تلك القيم، وننقلها إلى الأجيال القادمة، لنجعل من تجربتنا في هذه الديار رسالة تحمل عبق الإيمان ورائحة المحبة، لنكون دائماً في خدمة الإنسانية ونسعى نحو الخير.





([1]) لا يطلع أحد على ما وقعنا فيه من احراج ومتاهة الطريق لأننا جديدين العهد والتواجد في هذه المنطقة، عملنا على التخفي والتكتم كي نصل الى الحرم حتى نطمئن على سلامه الوصول.

([2]) سورة آل عمران: الآية 96.

تعليقات
ليست هناك تعليقات
إرسال تعليق

إرسال تعليق

الاسمبريد إلكترونيرسالة