U3F1ZWV6ZTM3NDI4MTc4MTgxNzE1X0ZyZWUyMzYxMjkzMTI0MzgyNg==

الرحلة المكية، اليوم السادس في رحاب الروضة الشريفة

 

اليوم السادس
في رحاب الروضة الشريفة

                                                من كتاب الرحلة المكية                           

الكاتب: عبد الاله الشبيبي


المقدمة: 

في صباح هذا اليوم الجميل المُشرق بإطلالة خير وإيمان ونحن في ضيافة مدينة الرسول الأعظم مدينة الخير والعطاء، مدينة الأمن والاستقرار، ها نحن نصل إلى اليوم السادس من رحلة الحج المباركة، حيث استقبلنا صلاة الفجر، ومن ثم توجهنا إلى المسجد النبوي ورحنا صوب بقيع الغرقد ذلك المكان الذي لا يُمل.

دخلنا على صاحب الدار والضيافة الرسول المصطفى وراح الخيال يحلق عالياً في سماء المدينة المنورة، استرجعت أمامي الأيام والسنوات التي عاش فيها، ونشر الإسلام والمعالم التاريخية والمشاهد القائمة التي تضمنتها أرض مدينته.

في تلك اللحظات، تذكرت ملاحظة أثارها أحد الإخوة، إذ قال إن هناك بعض القبور في البقيع تُظهر حجرتين، واحدة في البداية وأخرى في النهاية، بينما توجد قبور أخرى بحجرة واحدة. فالذي له حجرة واحدة يُعتبر قبر رجل، والذي له حجرتان يُعدّ قبر امرأة. رأيت أيضاً من يجلس قرب تلك القبور، ويبدو أنه من أهل المدينة، أتى ليزورهم.

عند بائع القماش:

بعدها، عرجنا إلى السوق الواقع تحت أرض الفندق، حيث المعروضات المتنوعة. توقفنا عند بائع القماش، وتعرفنا على صاحب المحل الملقب بـ "أبو زهراء اليمني"، الذي يكنّ حباً كبيراً للعراق وأهله. عرّفنا بانتمائه وعشقه لأهل البيت عليهم السلام، مما زاد من عمق تجربتنا وارتباطنا بهذه الأرض المباركة.

عند الساعة الحادية عشر والنصف صباحاً، جلس سماحة المرشد ليبدأ الحديث عن أمور الحج والعمرة، والميقات والشروع بالإحرام، وأهمية الصلاة خلف مقام إبراهيم، والبقاء عنده حتى موعد التجمَّع.

ومن ثم شرع بالحديث عن السعي بين الصفا والمروة، وتعرض إلى ذكر قصة وجود الأصنام فيما بينهما، وعن الشعائر التي كان أهل الجاهلية يمارسونها لكن أبقى عليها الإسلام ومنها السعي بين الصفا والمروة، حيث قال القرآن الكريم: }إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ{([1])، رغم أن أهل الجاهلية كانوا يقومون بها.

عن قصة السعي:

وحدّثنا كذلك عن قصة السعي التي بدأت من السيدة هاجر عندما تركها النبي إبراهيم (u) فقالت: إلى من تكلنا؟ قال: إلى الله عز وجل، وعندها عطش اسماعيل (u) وراحت تسعى نحو جبل الصفا طالبة الماء لابنها اسماعيل، فمكة كانت صحراء لا زرع فيها، ومن ثم توجهت نحو جبل المروة ولم تجد الماء وراحت تذهب سبع أشواط حتى رأت طيراً هناك يشرب الماء، ومن ثم نبع الماء من تحت أرجل النبي إسماعيل (u) وكان هذا السعي بين الخوف والرجاء، فصار واحداً من أركان الحج في الإسلام ولا بد من القيام به أثناء ممارسة الشعائر.

مع احلام الفلاسفة سلامة موسى.

في فضل السعي:

وهناك مجموعة من الروايات في فضل السعي، إذ قيل: ما من بقعةٍ أفضل من السعي ففيها يذل كل جبار وقد تساوى فيها الجميع، وقد جُعِل السعي مذلة للجبارين. وهناك آداب للسعي لا بدّ أن يتحلى بها الحاج وأن يشتغل بالذكر والدعاء وطلب الحوائج والصلاة على محمد وآل محمد، وأن يخلع الدنيا وأهلها في تلك البقاع المباركة، ويسعى نحو الوصول إلى الهدف التكاملي لتسمو الروح في علا المعالي.

كما يمكن تأجيل السعي إلى ساعات ضمن اليوم الواحد، ولكن لا يمكن تأجيل ذلك إلى اليوم الآخر، فمن أراد السعي فليستعد لذلك جيداً ويتهيأ نفسياً وجسدياً ومعنوياً ليصل إلى غاية السعي الحقيقي، وقد رأيت هذا الأمر عندما كنت أسعى في ذلك المكان وأهرول في تلك البقعة المخصصة وأعيش أجمل الشعور والتجليات، فليكن لك سعي معنوي وروحي نحو الهدف.

كما قرأت في كتاب "فقه الأخلاق" الكلام التالي: "فالإنسان‏ لا يخلو من سعي في حياته لهدف من الأهداف، إما الدنيوية وإما الأخروية، وسعي الحج يعني السعي للهدف الذي حج من أجله حجاً معنوياً، فإن الفرد قد لا يتم له التعرف على منطقة وجود هدفه بالتعيين، ويبقى متردداً في سعيه، فتارة يذهب إلى هذه الجهة وأخرى إلى تلك الجهة، تبعاً لاحتمال وجود الهدف وتحققه، فليكن السعي شيئاً من هذا القبيل ورمزاً على نحو من أنحاء الحيرة في الهدف المستلزم لشكل من أشكال الحيرة في السعي، وقد ورد: اللهم زدني حيرة"([2]).

وهنا تكون النية "أسعى بين الصفا والمروة سبعة أشواط لعمرة التمتع لحج التمتع لحجة الإسلام قربة إلى الله تعالى". ويجب ألا يكون هناك إخلال أثناء السعي بين الصفا والمروة، وأن يكون الشروع من الصفا نحو المروة. أي يبدأ من الصفا وينتهي عند المروة. وفي حال الشك بالزيادة أو النقصان يعتبر السعي باطلاً وتجب الإعادة، ولهذا ينصح بالسير على شكل جماعات وضبط عدد الأشواط.

من واجبات عمرة التمتع التقصير:

ومن ثم نصل إلى الواجب الخامس من واجبات عمرة التمتع وهو التقصير؛ أي قصّ (أخذ) جزء من الشعر أو الأظافر، وأن تكون النية هي "أقصر للإحلال من إحرام عمرة التمتع لحج التمتع لحجة الإسلام قربة إلى الله تعالى"، على أن يبدأ الحاج بتقصير نفسه قبل غيره ولا يجوز العكس، وهنا تنتهي أعمال عمرة التمتع التي هي الجزء الأول من حجة الإسلام لمن شدّ الرحال إلى الديار المقدسة لأداء فريضة الحج.

روضة من رياض الجنة:

ثم ذهبنا لتناول وجبة الغداء، التي كانت مكونة من الرزّ ومرقة الباميا مع الخضار والفاكهة من الموز والبرتقال، فلك الحمد والشكر يا الله على هذه النعم، بعد ذلك أخذنا قسطاً من الراحة والنوم، ثم توجهنا إلى الروضة الشريفة داخل الحرم التي من دخلها قد حظي بالأهمية، والصلاة فيها تعدل (عشرة آلاف صلاة) ([3])، وهي روضة من رياض الجنة كما نقلت الروايات، وقد احتشد الناس حول ذلك، حتى حان موعد اللقاء والدخول ووصلنا إلى قرب المنبر والمرقد، وهنا شعرت وكأن روحي قد فارقت جسدي، وانغمست في عالم الروحانيات وبقي الجسد الذي تحركه اللاشعورية ذات اليمين وذات الشمال وتأخذ به نحو الركوع والسجود ونبتعد به عن دنيا المغريات والملذات.

ومن ثمّ جلسنا في ساحة المسجد النبوي الواسعة، وراح كل واحد منا يركع ويصلي لأهله ولمن فارقهم من الأحياء والأموات، وبعدها خرجنا خارج المسجد من جهة الشمال لنستطلع نهايات المسجد وما يحتويه وما يجاوره، إذ رأينا الفنادق الشاهقة والبنايات العالية تحيط به.

بعدها، صلينا المغرب والعشاء، ثم تناولنا وجبة العشاء التي كانت من المأكولات النجفية الراقية "تمن وقيمة"، ثم الذهاب إلى هناك والتأمل بالأرض والمكان وقدسيته، فقد شارفت الأيام على النهاية، وها نحن نصل إلى اليوم الأخير من وجودنا في المدينة المنورة، نسأل الله قبول الأعمال واستجابة الصلوات والدعوات.

في الختام:

هكذا انتهى يومٌ من أيام الحج المباركة التي عشناها في جوار النبي محمد وآل بيته الطيبين الأخيار، وهي أيام لا تُنسى ولا يمكن للزمان أن يكرر مثلها، كونها أول حدث وأول مرة تصيب عيناك فيها المكان وتنظر له، أجواء روحية عالية تلامس الروح في المدينة المنورة وبالخصوص قرب الحبيب المصطفى وآله الأطهار.

وفي ختام هذه الرحلة الروحية، تبقى ذكريات المدينة المنورة محفورة في قلوبنا، كأصداء ماضية تعيد لنا عبق الإيمان وتلهمنا في مسيرتنا. لقد عشنا لحظات من الخشوع والسكينة، حيث تجلت عظمة الإسلام في أبهى صورها، واحتضنتنا تلك الأراضي الطاهرة برحمة الله وفضله.

عند ركن الحجر الاسود.





([1]) سورة البقرة: الآية 158.

([2]) فقه الأخلاق، السيد محمد الصدر، ج2، ص140.

([3]) أفضل المساجد: هو المسجد الحرام والصلاة فيه تعدل ألف ألف صلاة. ثم مسجد النبي (ص) والصلاة فيه تعدل عشرة آلاف صلاة، ثم مسجد الكوفة والمسجد الأقصى، والصلاة فيهما تعدل‏ ألف‏ صلاة. فقه الأخلاق، مصدر سبق ذكره، ج1، ص195.

تعليقات
ليست هناك تعليقات
إرسال تعليق

إرسال تعليق

الاسمبريد إلكترونيرسالة