U3F1ZWV6ZTM3NDI4MTc4MTgxNzE1X0ZyZWUyMzYxMjkzMTI0MzgyNg==

اليوم الاول: من النجف الأشرف إلى أبو عجرم

 

من النجف الأشرف إلى أبو عجرم


قصة حاج عاش اجواء الحج خلال ثلاثين يوماً سنرويها هنا .

اليوم الاول: من النجف الأشرف إلى أبو عجرم

مع ساعات الفجر الأولى من يوم السبت؛ السادس عشر من شهر ذي القعدة 1445هـ، الموافق للخامس والعشرين من أيّار 2024م، جهزنا الحقائب واستعدينا لسفرٍ طويل، ودّعنا من أجله الأهل والأصدقاء بنظرات لا تنقطع نحوهم، ونحن لا نعلم كم سيدوم، ففي السابق كانت رحلة الحجّ تستغرق شهوراً يجتاز خلالها الحجيج دولاً وبلداناً عديدة، وهم يواجهون شتّى المخاطر ويتعرضون لأنواع المحن والابتلاءات في طريقهم إلى مكة المكرمة. أمّا في الوقت الحالي؛ ومع تطوّر الزمن وتغيّر ظروف السفر وأسبابه، صار الذهاب إلى الديار المقدسة بسيطاً وسريعاً، قليلَ المخاطر والصعوبات، مع توفّر سبل الاتصال الدائم بالأهل والأصدقاء عبر الهواتف المحمولة التي قَرّبت المسافات وأزالت غربة الطريق ووحشة السفر.

أمام أبواب الشركة:

توجهنا إلى موقع التجمّع في منطقة الحزام الأخضر أمام أبواب الشركة حيث الحضور الغفير للجماهير التي كانت تودّع أهلها، وهناك تعرفنا على المرشد الديني الذي كلّفته هيئة الحج والعمرة بمرافقتنا والإشراف على أداء مناسكنا، ثمّ رأينا متعهد القافلة وهو يقف أمام الأبواب ويحاول تنظيم الأمور وتسهيل المهام، حيثُ عرّفنا على سائق الحافلة الذي سيقودنا نحو الديار المقدسة في رحلتنا المباركة لأداء مراسم الحج، ليساعدنا في وضع الحقائب داخل الحافلة في المكان المُخصص لرزمها. وقد حاول كل واحد منا وضع علامة مميزة على حقائبه ليميزها عن غيرها، ففي هذا العام قامت الهيئة بتوزيع حقائب ذات لون واحد وحجم واحد.

حملنا بأيدينا الحقائب الصغيرة إلى داخل الحافلة بعد أن ودّعنا الإخوة والأصدقاء، لتنطلق الرحلة مروراً بمدينة الحجاج التي تناولنا فيها وجبة الفطور على عجالة، ثمّ توجّهنا إلى عين التمر، ومن بعدها منطقة النخيب، وصولاً إلى منفذ عرعر الحدودي عند تمام الساعة العاشرة والنصف صباحاً، قبل أن نتّجه إلى الحدود السعودية عند مدينة "جديدة عرعر".

نظرية الخلود، هل يمكن العيش طويلا؟.

إلى أين وصلت؟

وفي هذه الأثناء جاءني اتصال من أحد الإخوة سائلاً: إلى أين وصلتم؟ فقلت له: إلى عرعر، إذ يُقال للشخص الذي لم يلتزم بالنظام والقانون "عرعر"، بمعنى أنّه دخل (عراره) مخالِفاً الأعراف والنظم واقتحم المدينة، ولهذا سميت المدينة بهذا الاسم([1]).

بعد ساعة من الوقوف تمت الإجراءات، فاتجهنا إلى المنفذ السعودي، وهناك بدأت الأمور تأخذ منحى الترتيب والتنظيم، حيث دخلنا إلى مكان ختم الجوازات ليوقفنا رجل الأمن طالباً الأوراق وسائلاً عن المتعهد، والمتعهد هو مدير شؤون القافلة التي تتكون من (48) شخصاً من ضمنهم السائق والمرشد والممرض.  وبعدها عبرنا (كاونتر) الأمن وجلسنا في منطقة الانتظار، لنجد في استقبالنا شخصاً بادَرَنا بالحفاوة وحسن الترحيب، وقد كان مكلّفاً بمساعدة الحجاج وإرشادهم وتقديم أفضل الخدمات لهم.

كلّ هذا ونحن في حالة من الاندهاش والتعجب لما يقدمه موظفو منفذ عرعر السعوديّ من خدمات وأمور جميلة تعكس صورة طيبة عنهم وعن بلدهم، وهم يعملون فيه لخدمة ضيوف الرحمن، على العكس ممّا رأيناه في المنفذ العراقي من فوضى وتأخير رغم وسع الأرض وكثرة المنتسبين، ولكن يبقى الفارق يحز في النفس، فلماذا نحن في تأخر دائم وغيرنا متقدم في أمور بسيطة لا تحتاج إلى جهد ومال كبير؟ رغم وجود المال الوفير واليد العاملة التي بإمكانها القيام بالأجمل والأكمل، وهذا ما نتمنى أن يتحقق ويصبح واقعاً في قادم السنوات، فالمنافذ الحدودية صورة مصغرة عن البلاد، ومن أراد أن يعكس صورة طيبة وجميلة عن بلده عليه الاعتناء بهذه المنافذ وتنظيمها وترتيبها وتسهيل مهمة الداخل والخارج منها. وهذا ما لمسناه في ذلك المكان الصحراوي الذي تعمّهُ روح المحبة والتعاون والتفاهم عند كلِّ مَن استقبلنا مِن الكادر الرجالي والنسائي، فلم نرَ إلا العيون المكحلة، والبرقع الأسود، والشماغ الأحمر، والعقال العربي، وعلامة رجل الأمن، وإظهار البهجة والسرور والانشراح والانفتاح، وكلمات الترحيب التي تُطلق من أفواههم: أهلاً وسهلاً، أهلاً بضيوف الرحمن.

 مع كتاب جلسات نفسية.

غادرنا هذا المكان، وراحت الحافلة تقطع بنا المسافات الطويلة والصحراء القفر، حتى وقفنا للاستراحة، فبدأ الحجاج بافتراش الطرقات وإخراج الطعام من الحافلات قرب أحد الجوامع في عمق الصحراء، ولما انتهت الاستراحة القصيرة عُدنا لإكمال المسير، وتبادُلِ أطراف الحديث عن الوضع المعاشي والاقتصادي والحياة الأسرية.


ثم توقفنا عند إحدى المحطات المخصصة لاستراحة الحجاج، 

ورحنا نتجول بين أروقتها، وهناك شاهدت طفلاً صغيراً يحمل بيده صندوقاً من الحلوى وهو يعرضها أمام الحشود في منظر جميل ولطيف يعبر عن روح الأخوة وحسن الكرم والضيافة. كما شاهدت برادات الماء وموزعي الطعام ومنظمي المكان، ومن ثم حملنا معنا مجموعة من الكتب التي عرضت علينا هناك، وكان أحدها يتحدث عن تهذيب النفس، والآخر عن المرأة، والثالث عن التوحيد. ومن ثم توجهنا نحو باعة الشاي السفري، وبعدها ذهبنا إلى باحة المحطة وتحدثنا عن مسافة الطريق وما تبقى للوصول إلى المكان الذي سنختم به يومنا الأول.

وبعد أن قطعنا مسافة الطريق الطويلة التي تتجاوز (360) كيلومتر في عمق الصحراء بين عرعر وأبو عجرم، ومشت بنا الحافلة التي تحمل رقم (2) حتى طوت بنا شوطاً طويلاً في البيداء؛ وصلنا في تمام الساعة الثامنة مساءً إلى منطقة أبو عجرم. وهنا كانت المفاجأة الأخرى من حيث الخدمة وحسن الاستقبال لضيوف الرحمن، مما يدلّ على طيب الخاطر والسعي في إظهار الوجه الجميل، وسيظل هذا المشهد محفوراً في الذاكرة حتى وإن تقادم العمر والسنوات.

لنبدأ الاتصال بالأهل:

ثم توجهنا إلى بائع شرائح الهاتف المحمول، واشتريت واحدة كتب عليها "زين"، لنبدأ الاتصال بالأهل والأصدقاء للاطمئنان علينا وعليهم، ومعرفة الأخبار وسير قافلة الحجيج التي تأخذنا إلى الديار المقدسة، في رحلة طويلة نسعى فيها إلى إكمال مناسك الحج. ورحنا بعدها نبحث عن مكان للمنام في تلك الساحة المفروشة التي تضج بالحشود القادمين من محافظات أخرى، إذ تعرفنا على أُناس من مدينة الكوت قد وفدوا قبل أيام، ومن ثم قررنا التوجه إلى إحدى الخيام المظلمة التي انطفأت عنها الكهرباء، فسادها الهدوء والسكون، ليضع كل واحد منّا رأسه على ما كان يحمل من وسادة، وراح يُقلّب ساعات اليوم التي مرّت ويفكر في قادم الأيام، وما هي إلا لحظات حتى غصنا في نوم عميق رغم (شخير) النائمين المتعبين.

من النجف إلى أبو عجرم ليس مجرد انتقالٍ جغرافي، بل هو انتقالٌ قلبي من عالم الدنيا إلى فضاءات الإيمان. هنا، يبدأ الحاج في تجريد نفسه من الأثقال المادية والمعنوية، مُدركاً أن الرحلة ليست سوى انعكاسٍ لرحلة الإنسان الأبدية نحو خالقه. فكما قطعوا اليومَ مسافةً على الأرض، تقطع أرواحهم مسافةً نحو السماء.

كان هذا موجز اليوم الأول من رحلتنا إلى الديار المقدسة، وهي الرحلة الأولى لموسم الحج لعام 1445هـ. وسنوافيكم بتفاصيل الأيام الأخرى، مع ذكر بعض جوانبها والمحطات التي نمر بها وما نشاهده من قصص وحكايات أثناء السفر، لتبقى ذكريات عشناها هنا.

وقفة مع اله الشر/ المؤلف محمد رسول.



 



([1]) هذا هو المعنى المتداول لكلمة (عرعر) في العراق، لكنّني عرفت فيما بعد أنَّ مدينة عرعر تقع على ضفافِ وادي (عرعر)، الذي سُمّي بهذا الاسم لأنّ ماء الوادي يجرَحُ الأرضَ ويُعَرعِرُها إذا سار بقوَّتِه.

تعليقات
ليست هناك تعليقات
إرسال تعليق

إرسال تعليق

الاسمبريد إلكترونيرسالة