الشاعر السيّاب والمطر وسحر العيون!.
المقدمة:
انشودة المطر ، قصيدة السياب التي حملت عنوان ديوانه ايضاً ، قصيدة مطلعها :
عيناك غابتا نخيل ساعة السحر
او شرفتان راح ينأى عنهما القمر
تبدو جميلة وبنيتها الداخلية متماسكة موسيقياً فللبيتين ايقاع يأخذ بالقارئ أو المتلقي، لكن ما صلة غابة النخيل بالعيون؟
وما صلة الشرفة التي نأى القمر عنها بجمال تلك العيون؟!.
والسحر ، وهو زمنياً آخر الليل ما الذي يضفيه على غابة نخيل او شرفة نأى القمر عنها؟!.
العرب تغنوا بالعيون:
ربما نسجل انتقالة من الوصف المادي الحسي لدى شعراء العربية القدامى الى دلالة رمزية ايحائية احياناً ، والعرب تغنوا بالعيون وتغزلوا بها كثيراً وهي لديهم دليلاً على العفاف او عدمه ، يصف امرؤ القيس محبوبته بالعفاف والرقة والترف اذ تقصر طرفها ولا تنظر لغيره او ان الغالب عليها النظر الى الارض اذ قال :
من القاصرات الطرف لو مر محول
من الذر فوق الإتب. منها لأثّرا !
وهي صورة عجيبة لأمرأة تغض نظرها ولا يغض النظر عنها احد ! ولرقتها فان الذرة من التراب تترك اثرها على جسدها لو مرت على ثيابها !.
وصف العيون المختبئة خلف النقاب:
وذهب ديك الجن الحمصي (عبد السلام بن رغبان ) بعيداً في وصف العيون المختبئة خلف النقاب فقال :
فَوقَ العُيونِ حَواجِبٌ زُجُّ
تحتَ الحَواجِبِ أَعْيُنٌ دُعْجُ
يَنْظُرْنَ مِنْ خَلَلِ النِّقابِ ومِنْ
تَحْتِ النِّقَابِ ضَواحِكٌ فُلْجُ
وإذا نَظَرْنَ رَمَقْنَ عَنْ مُقَلٍ
تَسْبِي الْعُيونَ فَحَشْوُهَا غُنْجُ
فلمح تلك العيون:
يقول هذا وقد رأى نسوة تحج الى بيت الله فلمح تلك العيون التي تسببت بفساد حج المسلمين عامهم ذاك وفقا لما يرى ديك الجن في خاتمة ابياته :
وافَيْنَ مَكّةَ للحَجِيجِ فلَمْ
يَسْلَمْ بِهِنَّ لمُسْلِمٍ حَجُّ !
رحم الله أبا تمام اذ نَوّمَ ديك الجن بعد تنبيهه فلو ايقظه لاوقفنا على عشرة آلاف كبيرة وكبيرة مثلما قال الطائي!.
العيون الساحرة:
وابن الرومي هو الآخر أهلكته تلك العيون الساحرة وبطشت به كالسهام التي تبطش بالجسد فقال في قصيدته التي مطلعها (قلبي من الطرف السقيم سقيم ):
قلبي من الطرفِ السَّقيم سقيمُ
لو أنَّ من أشكو إليه رحيمُ
نعمتْ بها عَيني فطالَ عذابُها
ولكَمْ عذابٌ قد جناه نعيم
نظرتْ فأقصدتِ الفؤادَ بسهمِها
ثم انثنَتْ نَحْوِي فكِدتُ أهيم
ويْلاهُ إنْ نَظَرتْ وإن هِيَ أعْرضتْ
وقعُ السِّهام ونَزْعُهُنَّ أليم !
الاعتراف بالانهيار أمام تلك العيون:
ولايأنف الشريف الرضي (قدس سره ) على جلالة قدره وعلو منزلته وما عليه من إباء وشرف وعفاف من الاعتراف بالانهيار أمام تلك العيون التي تنبئ لحاظها عن اسماء قتلاها ثم يعترف مثل ابن الرومي بالجمع بين النقيضين (فما امرك في قلبي واحلاك )!
وَعدٌ لِعَينَيكِ عِندي ما وَفَيتِ بِهِ
يا قُربَ ما كَذَبَت عَينيَّ عَيناكِ
حَكَت لِحاظُكِ ما في الريمِ مِن مُلَحٍ
يَومَ اللِقاءِ فَكانَ الفَضلُ لِلحاكي
كَأَنَّ طَرفَكِ يَومَ الجِزعِ يُخبِرُنا
بِما طَوى عَنكِ مِن أَسماءِ قَتلاكِ
أَنتِ النَعيمُ لِقَلبي وَالعَذابُ لَهُ
فَما أَمَرُّكِ في قَلبي وَأَحلاكِ!
هذا غيض من فيض مما جادت به السن شعراء العربية في العيون وآثارها على النفس وما تتركه على الرائي حتى انتهى المطاف بنا الى السياب الذي وصفها بما مر ذكره فهل افلح السياب في ذلك ؟!
ما دلالة غابة النخيل ساعة السحر ؟.
ان لون سعفها الأخضر المائل الى العتمة وجذعها البني القاتم يزيدان الظلام ظلاما بل يندكان فيه حتى يصير هندساً او حندساً ! فأي جمال للعيون في هذا الظلام المركب ؟!
انها لم تلمع في هذا الظلام لمعان السيف الذي شبهه عنترة بلمعان ثغر عبلة (كبارق ثغرك المتبسم) ولم تشق وحشة هذا الليل بل تضاعفت وحشته عندما نأى القمر عن تلك الشرفة المطلة على غابة النخيل تلك!.
غابتا نخيل
أو شرفتان نأى عنهما القمر، انه يتردد في الوصف ! ولابد ان نشكره اذ لم يجمع بين غابة النخيل ساعة السحر ونأي القمر عن شرفتين!
هل تغزل السياب بعينين لصوفية؟! او عابدة سائحة ذائبة في الله تعشق ساعة السحر فتهب للعبادة والطاعة والتهجد فيقدسها تقديس النخلة واكرامها (اكرموا عمتكم النخلة )؟
لا تدل قصيدته على هذا ولا تدل على اذعانه وعجزه عن وصف مايراه كصاحبه ومعاصره نزار قباني الذي اكتفى بالتسبيح لله والاذعان لقدرته فقال :
عيناها : سبحان المعبود
فيما يوغل السياب في التغريب ويقع في مطب لا معنى له ولا قيمة فنية ولعل شيطانه خانه في مسعاه فلم يبلغه مناه وللشعراء شياطينهم بل توسلاتهم بشياطينهم ، تقول لمعية عباس عمارة :
لعنة اللاعن ياشعر عليك
ما الذي اوقعني بين يديك
انت لو كنت صلاحا وتقى
ما توسلنا بشيطان اليك !.
شيطان شعراء الشعر :
واكثر من ذلك ان شيطان شعراء الشعر الحر كسول ولا يقتنص المعاني وغريب في بيئة انجبت المتنبي وحبيب بن اوس الطائي وامرؤ القيس والجواهري ، وغربته لا تختلف عن غربة الشعر الحر أمام القصيدة العمودية المتوارثة والتي رسخت هوية العرب الشعرية والتي لاتصمد امامها قصائد الشعر الحر مهما كان قائلها كبيرا بل حتى لو كان بدر شاكر السياب ! كتبها الشيخ صادق الحسناوي.
إرسال تعليق