U3F1ZWV6ZTM3NDI4MTc4MTgxNzE1X0ZyZWUyMzYxMjkzMTI0MzgyNg==

سيبويه في سوق الدشاديش

 سيبويه في سوق الدشاديش!...


المقدمة: 

لقد عاش صهرنا ردحاً طويلاً من الزمن بين الكتب الأدبية والنحوية واللغوية، ليجول بعد ذلك ويصول في حلبات تقويم النصوص وتحقيقها. حتى أصبحت المفردة واشتقاقاتها وجذورها شغله الشاغل، وكنا لذلك نحذر كل الحذر من اللحن في حضرته، أو أن يكون لنا رأي في أصول كلمة فوق رأيه! .. ظل هكذا حبيس صوامع التحقيق وأبراج التقويم العاجية، حتى اضطرته تكاليف الحياة ذات يوم إلى الخروج إلى صدرها الرحب حيث يكون للعوام مذاهب لغوية تلقي بآلاف السيبويهات في مهب الريح!.


تقويماته القياسية والسماعية:

 إن صهرنا إذ خرج إلى الحياة لم تسلم من تقويماته القياسية والسماعية حتى لغتنا الدارجة! .. ومن ذلك أنه دخل ذات يوم على ابن عمّتي وهو رجل متأنق يحسن اختيار ملابسه؛ فأعجب بالدشداشة التي كان يرتديها، وعبّر له عن رغبته في أن يدلّه على المحل الذي اقتنى منه تلك الدشداشة، وقال له: أريد ثلاث (دشداشات) مثلها..

قال له ابن عمّتي: لا بأس سوف أذهب معك شخصياً إلى السوق، ولكن هناك مسألة لابدّ من حسمها قبل كل شيء! فقد سمعت أنك جمعت الدشداشة على دشداشات، في حين أن الصحيح دشاديش! فهل تستطيع أن تقطع لي وعداً بأن لا تصرخ بلفظ (الدشداشات) عندما نكون في السوق؛ فهنا في بيتنا قد تمضي الأمور بسلام، ولكنك لا تعلم ما ستكون عليه ردّة فعل الناس تجاهك عندما يسمعونك تجمع دشاديشهم على دشداشاتك، لا شك عندي في أنهم سيجعلون منك أضحوكة للرائح والغادي، هذا إذا لم يقطّعوك أوصالاً ويفصلوا منك دشاديش بشتى الأحجام والمقاسات! ولذلك أشترط عليك قبل الذهاب معك إلى السوق أن تجمع الدشداشة على دشاديش لا دشداشات!

أخذ صهرنا الأمر على سبيل المزحة، ووافق على الشرط مبتسماً؛ إذ انحصرت غايته في الحصول على شيء أعجبه، وليس الدخول في متاهات الأستاذ مصطفى جواد في برنامج (قل ولا تقل)!.


فلسفة الدشداشة:

خرجا معاً إلى السوق، وفي الطريق دار الحديث حول فلسفة الدشداشة وأنواعها، وكان من رأي صهرنا أن طول الدشداشة يجب أن يكون طبيعياً لا يتجاوز الكاحل فيخط في الأرض مثل ثياب الملكة الإيرانية (فرح ديبا)؛ فتضطرّ إلى استخدام ثلاثين وصيفة ليرفعن أذيال ثوبها من خلفها على مسافة ثلاثين متراً، ولا ترتفع إلى ما فوق الركبة كما هو شأن الأتقياء من إخوتنا الوهابية عندما يبالغون في تقصير الدشداشة حتى تكون شبه قميص! .. 


أصولها التاريخية: 

وبعد مسافة طويلة قطعها صهرنا وابن عمّتي ولم يشعرا بها بسبب انهماكهما في الحديث عن تفاصل الدشداشة وأصولها التاريخية وصلا إلى السوق، ودخلا إلى محل للملابس، وهناك أخذا ينظران في جميع أنواع الدشداشات القشيبة، وقام صاحب المحل بإرشادهما إلى مختلف أنواع البضاعة التي يمتلكها سواء أكانت محلية الصنع أم مستوردة.


لحظة الانبهار:

وفي لحظة من الانبهار نسي صهرنا درسه عندما سأل صاحب المحل: (ما هو أفضل أنواع الدشداشات عندك؟).. جفل صاحب المحل ونكص على عقبيه، وأسقط ما في يد ابن عمتي، وحدّق في صهرنا مستغرباً، وكان هناك رجل يهمّ بالدخول إلى المحل، وطنّت في أذنيه لفظة (دشداشات) بكل حروفها، فعلّق منزعجاً: (دشاديش يا أخي وليست دشداشات)!!.. أمسك ابن عمّتي بيد صهرنا وسحبه خارجاً تلافياً لحصول معركة لا منتصر فيها .. وفي الخارج قال له: (ألم أقل لك دشاديش وليس دشداشات)؟!.


جمع الدشداشات:

أطرق صهرنا خجلاً وقال له: لا تؤاخذني بما نسيت، ولكن بيني وبينك: إن جمع الدشداشات هو الصحيح وليس الدشاديش، وفمي لا يطاوعني على اللحن! .. فقال ابن عمّتي: (بلا لحن بلا بطيخ، الصحيح دشاديش وليس دشداشات .. ثم لنسلم جدلاً أن ما تقوله هو الصحيح، ولكن هل تظن أن موافقتي لك ستنجيك من الناس إن سمعوا منك هذا الرأي الخطل؟!.. لا شك عندي في أنهم سوف يسحبوننا من أطراف دشاديشنا على كلا الوجهين احتياطاً وجوبياً، ثم يشنقوننا بأكمام الدشاديش رجاء للمطلوبية!.


لفظ الكلمة:

قال صهرنا لا بأس سوف أمارس التقية وأتبنى لفظ الدشاديش بدل الدشداشات، لا أبتغي بذلك غير حقن دماء المسلمين! .. كان صهرنا يتكلم بهذا الكلام مع ابن عمّتي في زحمة السوق، واستطرد قائلاً: هذا رغم أني على يقين من أن الدشداشات هي الصحيحة وليس الدشاديش، وحيث كان يتكلم بصوت مرتفع ـ مخالفاً مفهوم التقية ـ فقد سمعه بعض من كان يسير بقربهما؛ فحشر نفسه في النقاش قائلاً: ما هذا الكلام؟! أنا خريج من كلية الآداب (لغة عربية)، ولم أسمع في حياتي من يجمع الدشداشة على دشداشات، وعليه أرى أن الصحيح دشاديش، وأضاف متهكماً: لا كما تقول (دشداشات)! وأنا أتحدّاك أن تأتيني بشاهدٍ واحد من المصادر اللغوية الأصيلة يجمع الدشداشة على دشداشات!.


في غمرة النقاش:

وهناك تحلقت جمهرة من الناس من مختلف الأصناف حول صهرنا وخريج كلية الآداب لينظروا لمن ستكون الغلبة! .. تلفت صهرنا يمينا وشمالاً بحثاً عن ابن عمّتي، ولكن دون جدوى؛ كان ابن عمّتي قد انسحب في غمرة النقاش وزحمة الناس ولاذ بالفرار! فأدرك صهرنا أن عليه مواجه مصيره بمفرده، ورأى أن الهجوم خير وسيلة للدفاع؛ فالتفت إلى خريج كلية الآداب وقال له: لا شك عندي في أنك متعلم، وستفهم ما أقول؛ فأنا عندما أجمع الدشداشة على دشداشات إنما أوافق القياسات العربية في مثل هذه الحالة، ألا ترى أنهم يجمعون ثلاجة على ثلاجات وليس ثلاجيج! .. وزجاجة على زجاجات وليس زجاجيج! .. ودرّاجة على دراجات وليس دراريج! .. ودبابة على دبابات وليس دبابيب! .. ودجاجة على دجاجات وليس دجاجيج! .. وهكذا القياس (دشداشة دشاشات وليس دشاديش)!.


خريج كلية الآداب:

حاول خريج كلية الآداب أن يردّ على صهرنا، ولكنه فوجئ بصوت امرأة عجوز من بين الجموع المحتشدة تزعق قائلة: (خالة دهر صابكم، شمال عدوكم .. ومن احنا زغار نسمع الناس تگول: دهداشة .. دهداشتين .. تلث دهاديش)!

استغل صهرنا انشغال الناس بالأدلة التي تسوقها العجوز المتبجّحة بمعلوماتها اللغوية الميدانية، وانسل خارجاً لينجو بنفسه، وهناك رأى ابن عمّتي مختبئاً في زاوية ينظر إلى المشهد الملحمي غارقاً في الضحك، فاستله من كمه ليعود به إلى البيت سالماً، ولسان حاله يقول: (رضيت من الغنيمة بالإيابات لا بالإيابيب)!. كتبها حسن مطر.



تعليقات
ليست هناك تعليقات
إرسال تعليق

إرسال تعليق

الاسمبريد إلكترونيرسالة