طوائف المجتمع الفرعوني...
المقدمة:
من السنن الاجتماعية التي أشار لها القران الكريم (انقسام المجتمع بوجود الحاكم الظالم إلى عدة طوائف) ومن المستطاع القول إن كل مجتمع يحكمه حاكم ظالم سينقسم إلى تلك الطوائف وهي :
الطائفة الأولى: الظالمون المستضعفون :
في التجزئة الفرعونية لمجتمع الظلم، توجد اولى الطوائف وهم الظالمون المستضعفون، هؤلاء الذين يحشرون يوم القيامة في زمرة الظالمين، ثم يقولون للمستكبرين من الظالمين لولا أنتم لكنا مؤمنين، هذه هي الطائفة الأولى التي تشكّل الحماية والسند للفرعونية وفي زمن يزيد كانت هذه الطائفة من العرب والعجم مكونين لجيش يزيد وقوته الضاربة.
الطائفة الثّانية: أهل الرأي :
في عملية التمزقة الفرعونيّة لمجتمع الظلم، طائفة ظالمة، يشكّلون حاشية، ومتملّقون، وأولئك قد لا يمارسون ظلماً بأيديهم بالفعل، ولكنّهم دائماً وأبداً على مستوى نزوات فرعون وشهواته ويسبقونه بالقول من أجل أن يصحّحوا مسلكه ومسيرته وهم الملأ بتعبير القران الكريم أو أهل الرأي والحواشي وعبر ما شات عنهم . قال الله سبحانه وتعالى: {وَقَالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِ فِرْعَوْنَ أَتَذَرُ مُوسَى وَقَوْمَهُ لِيُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَيَذَرَكَ وَآلِهَتَكَ قَالَ سَنُقَتِّلُ أَبْنَاءَهُمْ وَنَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ وَإِنَّا فَوْقَهُمْ قَاهِرُونَ}[الأعراف: 127].
وقد شكّلوا دور الإثارة لفرعون، وهؤلاء كانوا يعرفون أنهم بهذا الكلام يضربون على الوتر الحسّاس في قلب فرعون، فتسابقوا إلى هذا الكلام لكي يجعلوا فرعون يعبّر عما في نفسه، ويتّخذ الموقف المنسجم مع مشاعره وعواطفه وفرعونيته وفي زمن يزيد كان بعضهم من عملاء الروم كسرجون وبعضهم من أعيان الشام وفي الكوفة كان بعضهم من اعيان الكوفة حاشية لعبيد الله بن زياد.
الطّائفة الثّالثة : الهمج :
في عمليّة التجزئة الفرعونية لمجتمع الظلم، أولئك الذين عبَّر عنهم الإمام عليّ عليه الصلاة والسلام «بالهمج الرعاع»، وهم جماعة عبارة عن مجرّد آلات مستسلمة لا اكثر ، لا تحس بالظلم، ولا تدرك أنها مظلومة، فهي تتحرّك تحرّك التبعية والطاعة دون تدبر، ودون وعي، بعد أن سلب فرعون منها تدبّرها، وعقلها، ووعيها، وهذه الفئة طبعاً تفقد كلّ قدرة على الإبداع البشري في مجال التعامل مع الطبيعة، لأنها تحوّلت إلى آلات، وإذا وجد أنّ هناك إبداعاً في هذه الفئة، فإنما هو ابداع من يحرك هذه الآلات، قال الله سبحانه وتعالى :{وَقَالُوا رَبَّنَا إِنَّا أَطَعْنَا سَادَتَنَا وَكُبَرَاءَنَا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلَا}[الأحزاب: 67]، لا يوجد في كلام هؤلاء ما يشعر بأنهم كانوا يحسّون بالظلم، أو كانوا يحسون بأنهم مظلومون، وإنما هو مجرَّد طاعة، مجرّد تبعيّة، هؤلاء هم القسم الثّالث في تقسيم مولانا أمير المؤمنين عليه أفضل الصلاة والسلام، حينما قال : "الناس ثلاثة: عالم ربّاني، ومتعلّم على سبيل نجاة، وهمج رعاع ينعقون مع كلّ ناعق".
وهذا القسم الثّالث يشكِّل مشكلة بالنّسبة إلى أيّ مجتمع صالح، وبقدر ما يمكن للمجتمع الصالح أن يستأصل هذا القسم الثّالث بتحويله إلى القسم الثاني، بتحويله إلى متعلم على سبيل النجاة على حدّ تعبير الإمام، إلى تابع بإحسان على حدّ تعبير القرآن، إلى مقلّد بوعي وتبصّر على حد تعبير الفقه، يمكن للمجتمع الصالح أن يستمرّ وأن يمتدّ.
ولهذا كان من ضرورات المجتمع الصّالح في نظر الإمام عليه الصلاة والسلام، هو شجب هذا القسم الثّالث، هؤلاء الهمج الرّعاع الذين ينعقون مع كل ناعق، ليس لهم عقل مستقل، وإرادة مستقلة. كان الإمام (عليه السلام) يرى أنّه يجب تصفيته من المجتمع الصالح، وذلك لا بالقضاء عليه فرديّاً، بل بتحويله إلى القسم الثاني ضمن إحدى الصيغ الثلاث التي ذكرناها، لكي يستطيع المجتمع الصالح أن يواصل إبداعه، ولكي يستطيع كل أفراد المجتمع الصالح أن يشكّلوا مشاركة حقيقية في مسيرة الإبداع. وخلافاً للظاهرة الفرعونيّة، فالفرعونيّة تحاول أن توسع من هذا القسم الثالث.
وكلما توسعت هذه الفئة أكثر فأكثر، قدمت المجتمع نحو الدمار خطوة بعد خطوة، لأن هذه الفئة لا تستطيع بوجه من الوجوه أن تدافع عن المجتمع إذا حلّت كارثة في الداخل، أو طرأت كارثة من الخارج، ولذا فهم كلّما توسعوا في المجتمع كمّاً وكيفاً، ازداد خطر فنائه، وبهذا تموت المجتمعات موتاً طبيعيّاً، في مقابل الموت المخروم.
الطائفة الرابعة: المهادنون الساكتون :
فهم أولئك الذين يستنكرون الظلم في أنفسهم، أولئك الذين لم يفقدوا لبّهم أمام فرعون والفرعونية، فهم يستنكرون الظلم، لكنّهم يهادنونه ويسكتون عنه، فيعيشون حالة التوتر والقلق في أنفسهم.
وهذه الحالة، أبعد ما تكون عن حالة تسمح للإنسان بالإبداع والتجديد والنموّ على ساحة علاقات الإنسان مع الطبيعة. هؤلاء يسمّيهم القرآن الكريم ظالِمِي أَنْفُسِهِمْ، قال الله سبحانه وتعالى: {إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنْتُمْ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا}[النّساء: 97].
هؤلاء لم يظلموا الآخرين، ليسوا من الظّالمين المستضعفين كالطائفة الأولى، وليسوا من الحاشية المتملّقين، وليسوا أيضاً من الهمج الرّعاع الذين فقدوا لبّهم، بل بالعكس، هم يشعرون بأنهم مستضعفون. {قالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ}، ولكنّهم كانوا عمليّاً مهادنين، ولهذا عبّر عنهم القرآن بأنهم ظلموا أنفسهم، هذه الطائفة لا يترقّب منها أن تساعد بإبداع حقيقي في مجال علاقات الإنسان مع الطبيعة ؛ وفي زمن الامام الحسين عليه السلام مثل هذه الطبعة عدد ممن قدموا النصيحة له وخالفوه في حركته مع قدرتهم على نصرته وعدد ممن تخلى عن نصرته أيضا بحجج واهية إذ لا يرتجى من هذه الطائفة أي عملية تغيير لأنهم مستسلمون للظلم بالرغم من شعورهم به.
الطائفة الخامسة : الرهبانيون :
في عملية التجزئة الفرعونيّة للمجتمع هي: الطائفة التي تتهرّب من مسرح الحياة، وتبتعد عنه وتترهبن، وهذه الرهبانيّة موجودة في كلّ مجتمعات الظلم على مرّ التّاريخ، وهي تتخذ صيغتين :
الأولى:
رهبانيّة جادّة تريد أن تفر بنفسها لكي لا تتلوّث بأوحال المجتمع، هذه الرهبانيّة الجادّة التي عبَّر عنها القرآن الكريم بقوله :{وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا}[الحديد: 27]. هذه الرهبانية يشجبها الإسلام لأنها موقف سلبي تجاه مسؤوليَّة خلافة الإنسان على الأرض.
الثانية:
رهبانيَّة مفتعلة، يترهَّب ويلبس مسوح الرّهبان، ولكنَّه ليس راهباً في أعماق نفسه، وإنما يريد بذلك أن يخدّر النَّاس ويشغلهم عن فرعون وظلم فرعون، ويسطو عليهم نفسياً وروحياً. {إِنَّ كَثِيرًا مِنَ الْأَحْبَارِ وَالرُّهْبَانِ لَيَأْكُلُونَ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ} [التّوبة: 34] ؛ وفي زمن الامام الحسين عليه السلام مثل هذه الطائفة عدد من قيادات الأمة ممن لا يعتدى دينهم سوى سجادة للصلاة والافتاء بأحكام الوضوء والحيض والنفاس وغسل الميت!! ولا علاقة لهم بمواجهة الظالم.
الطائفة السادسة: المستضعفون الثائرون :
وهم الطائفة الأخيرة في عملية التجزئة الفرعونيّة للمجتمع ففرعون حينما اتخذ من قومه شيعاً، استضعف طائفة معيّنة منهم خصها بالإذلال وهدر الكرامة، لأنها كانت هي الطائفة التي يتوسّم أن تشكّل إطاراً للتحرّك ضدّه، ولهذا استضعفها بالذات : {وَإِذْ نَجَّيْنَاكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذَابِ يُذَبِّحُونَ أَبْنَاءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءَكُمْ وَفِي ذَلِكُمْ بَلَاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ}[البقرة: 49].
على عاتق هذه الطائفة:
ويقع على هذه الطائفة في أي مجتمع فرعوني كل أعباء المعارضة من قتل وتشريد وهتك حرمات وسجون كما وقع على الامام الحسين عليه السلام وأنصاره وأهل بيته عليهم السلام ووقع على كل ثائر بحق في تاريخ البشرية وسط أي مجتمع فرعوني ؛ ويشير القرآن الكريم ضمن سنة من سنن التّاريخ أيضاً، أنّ موقع أيّ طائفة في التركيب الفرعوني لمجتمع الظلم، يتناسب عكسياً مع موقعه بعد انحسار الظلم، وهذا معنى قوله سبحانه وتعالى :{وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ}[القصص: 5].
فتلك الطائفة السادسة التي كانت هي منحدر التّركيب، يريد الله سبحانه وتعالى في نهاية المطاف أن يجعلهم أئمّة ويجعلهم الوارثين حين يحكموا الأرض جميعا بالعدل الالهي فهذه الطائفة أو الجماعة هي الخالدة في التاريخ تعظيما وتبجيلا لأنها المرضية من قبل الله تعالى وأما الطوائف الخمس الأولى ففي مزبلة التاريخ. كتبها علي ال جون، (من كتابات السيد محمد باقر الصدر "رض" بتصرف وزيادات).

إرسال تعليق