U3F1ZWV6ZTM3NDI4MTc4MTgxNzE1X0ZyZWUyMzYxMjkzMTI0MzgyNg==

الرحلة المكية، اليوم الثامن الدخول الأول إلى الحرم لأداء عمرة التمتع

 

اليوم الثامن
الدخول الأول إلى الحرم لأداء عمرة التمتع

 الرحلة المكية

الكاتب/ عبد الاله الشبيبي

المقدمة:

قطعنا المسافة الطويلة بين المدينة المنورة ومكة المكرمة في سبع ساعات، حتى وصلنا إلى موقع وقوف الحافلات، بعد أن أخّرتنا إحدى السيطرات قرب المدينة، حيث أوقفتنا وأوقفت غيرنا ساعتين تقريباً.

هناك، لاحظت نوعاً من التشدد على دخول مَن لا تصريح لديه أو مَن هو خارج أرض مكة، والتصريح هو ورقة تسمح لك بالدخول إلى مكة المكرمة بشكل نظامي، فهناك مخالف للتعليمات والنظام الذي يريد أن يسيطر على أعداد الحجاج وضمان إتمام المراسيم بسلام.

ورغم هذه الليلة الشاقة والمتعبة التي لم ننم فيها إلا دقائق متقطعة، كان القلب يشعر بالفرح والابتهاج والانشراح وهو يستقبل الدخول إلى أرض الله المباركة التي وطِئَتها أقدام الأنبياء والمرسلين والصالحين وسكنها الحبيب المصطفى سنوات وهو يدعو الأمة إلى التعاليم الإلهية، ومنها بزغ نجم الإسلام وحارب الرسول (ص) الشرك والإلحاد والمنافقين.

ومع تسارع الدقائق ونحن في طريقنا إلى ذلك المكان المعظم أُخذت جوازاتنا إلى وحدة استقبال حجاج (البر والمجاملة) كما كُتِب على القطعة الخارجية لذلك المكان، وراح من يجلس على الحاسوب يدقق الأسماء والجوازات ويتأكد من صحتها وتطابق الأعداد والأسماء، وهنا قاربت الساعة الثالثة وعشرين دقيقة فجراً من يوم السبت.

أمام أبواب الفندق:

عندما أشارت الساعة إلى الرابعة والربع فجراً، وقفت الحافلة أمام أبواب الفندق الواقع في منطقة العزيزية الشمالية، وجاء المندوب الذي يُسير حركة الحافلات ونزول الحجيج قائلاً: (انتظروا حتى ينزل الذين قبلكم في الحافلة التي تقف أمام الأبواب)، وما هي إلا دقائق حتى تم الأمر.

نزلنا وتوجهنا نحو بوابة الفندق ذو الخمسة عشر طابقاً، فرُحِّب بنا وقُدِّمت لنا الورود بحفاوةٍ وحُسنِ استقبال كبيرَين، ثم أُخبِرنا بمحال أماكن وجودنا وأرقام غرفنا فتوجهنا إليها وجلسنا فيها وكان من المؤمل التوجه إلى أداء عمرة التمتع ولكن بسبب ضيق الوقت وتعب الحجيج أُجِّل الأمر إلى ما بعد صلاة المغرب والعشاء، وبما أنّنا لا يُسمح لنا نهاراً ركوب الحافلات المظللة، كنّا مخيّرين بين الذهاب ليلاً فقط وبين توفير حافلات مكشوفة، فعلى رأي السيد السيستاني لا يجوز التظليل نهاراً فقط، أمّا السيد الصدر فيسري منع التظليل عنده نهاراً وليلاً، ومن وقع في ذلك عليه كفارة، وهي شاة تعطى للفقراء.

وهنا لا بد للحجيج البقاء على لبس الإحرام حتى إتمام المهمة "عمرة التمتع"، فلا يجوز استبداله أو وضع شيء على الرأس أو عمل شيء يخالف لبس الإحرام، وللإحرام رمزية تشير إلى تساوي الحشود فقيرهم وغنيهم، كما أنها تذكرك بنهاية الحياة والموت، وهو إشعار على تحريم الإنسان مجموعة من الأعمال على نفسه حتى يُكمل ما نوى القيام به.

ومن محرمات الإحرام: 

النظر بالمرآة للتجمل، وقتل الحشرات، واستعمال الطيب، ولبس الزينة والمخيط، وصيد الحيوانات البرية، ولمس وتقبيل النساء، وحمل السلاح، وقلع الأشجار، ولبس الخف والجوراب للرجال، وستر الرأس للرجال، وستر الوجه للنساء، وإخراج الدم، والادّهان، وإزالة الشعر وتقليم الاظافر، والجدال والفسوق، كما قال تعالى }فَلَا رَفَثَ وَلَا فُسُوقَ وَلَا جِدَالَ فِي الْحَجِّ{([1]). والفسوق يشمل السب والكذب والمفاخرة المحرمة([2])، وغيرها من الأمور التي يحرم القيام بها على المحرم.

إشارة لطيفة:

وهنا أذكر إشارة لطيفة من كتاب (فقه الأخلاق): (أمّا تُرُوك‏ الإحرام، فتختلف في الإحرام المعنوي باختلاف مستوى الفرد وإدراكه، أو قل حسب درجة إحرامه، فمنها ترك الشهوات، ومنها ترك حب الدنيا، ومنها الزهد في الدنيا فعلياً، ومنها ترك النظر إلى الأسباب إلى غير ذلك. فإنه بدون هذه التروك لا يكون الفرد محرماً، وإذا لم يكن محرماً لم يُقبَل حجه)([3]).

ثم راح كل واحد منا إلى سريره لتعويض قلّة ساعات النوم خلال المسير ليلاً، وبعد مرور ساعات جلس الحجيج يناقشون الأمر، سائلين: (لماذا وكيف لا يمكن لنا الذهاب نهاراً؟ وما هي العلةُ من عدم الركوب في السيارات المظللة؟) فقلنا: هذه الأمور قد أوقفها الشارع لما لها من الأهمية والرمزية للشخص بهدف تحلّيه بالأمور الصحيحة وهي أمور تعبدية، ومن ثم طلب إيضاح منطقة (محبس الجن)([4])، ولماذا سُمِّي بهذا الاسم، وبعدها أعدتُ لهم إيضاح وشرح خطوات عمل عمرة التمتع التي قطعنا منها مرحلة الإحرام فقط، وبعد صلاتي المغرب والعشاء سنكمل المراحل الأخرى المتبقية.

 أوَّلَ أيام الحج:

وبعدها نزلنا إلى وحدة المطعم فكانت وجبة الغداء من الرز ومرق الفاصولياء مع قطعة من الدجاج، وهنا وجدنا الخبز العراقي الذي قيل في محطات الأخبار أوَّلَ أيام الحج أنّ الحاج حين يصلُ إلى مكة سيجد الخبز العراقي هناك، وفعلاً كان موجوداً، لكنها قد تكون المرة الأولى والأخيرة.

وبعد إنهاء الصلاة استمع الجميع إلى البصمة الصوتية التي وصلت لنا عبر مجموعة الواتساب المخصصة للقافلة، والتي تطلب من الجميع الاستعداد والتهيؤ لإكمال الخطوات الأخيرة ضمن عمرة التمتع من حجة الإسلام، فلا بد من عقد النية في كل خطوة من هذه الخطوات التي نقوم بها.

ومع حلول الساعة الثامنة والنصف ليلاً ركبنا الحافلة رقم ثمانية على نسق الفندق ثمانية، وتوجهنا نحو منطقة يقال لها "الششة" وقد مرت بنا على أحياء كثيرة، ثم دخلت المرأب ذو التنظيم العالي والترتيب، وكل حافلة تعرف مكان وقوفها، ولكل دولة أرقام مخصصة، ومن ثم ترجّلنا إلى باص آخر قرب المنطقة كان مخصصاً لنقل الحجيج إلى الحرم، ومن منطقة يقال لها (محبس الجن) إلى الحرم أمام باب السلام ومن عنده يكون الدخول.

الحظات الاولى عند الحرم:

وصلنا ونحن نرى أعظم الأماكن وأقدس البقاع، فماذا ستكون ردود الأفعال؟ كُنّا لا شعورياً نُردِّد: (سبحان الله ما هذا؟)، وهكذا شقَّ الجموعُ طريقهم - إذ كنا نسير مجموعة واحدة مكونة من (46 حاجاً) بين رجل وامرأة - حتى أوقفنا المرشد عند بداية الحرم وقرأ علينا دعاء الدخول، ثم صرنا أمام البيت والقشعريرة تأخذك مع الرهبة الكبيرة وصدى الحلم الذي صار واقعاً وأنت تدخل في حرم الله عز وجل لتدعوه وتتوسل إليه، حتى تدخل ضمن نهر أبيض جارٍ، فتشعر بأنك قطرة من هذا النهر العظيم المتلاطم الأمواج.

وقفنا عند ركن الحجر الأسود ومنه عقدنا نية الطواف التي تنص على: "أطوف حول البيت سبعة أشواط لعمرة التمتع لحج التمتع لحجة الإسلام قربة إلى الله تعالى"، وبدأ الطواف حول البيت المقدس على أن تكون على طهارة حتى إنهاء الأشواط السبع ولسانك مشغول بالذكر والدعاء، وفي تلك الحالة كنا كالإجرام السماوية التي تدور حول الشمس، ونحن ندور حول محور الكون التوحيد، وأنت ترى وتسمع الحجيج تنادي ربها أن يغفر لها ويرحمها ويبعد عنها كل سوء ومكروه، واستمر الحال كذلك إلى ما يقارب الساعة، حتى أنهينا الطواف عند الحجر الأسود، وهذا كان الأمر الثاني من أعمال عمرة التمتع.

مركز النشاط النفسي والاجتماعي:

وهنا: (يكون الدوران حول الكعبة بالطواف وجعلها مركز الإحساس المادي، رمزاً حياً عن الدوران حول التوحيد وحول الحق الصريح وجعله مركز الإحساس المعنوي، ومركز النشاط النفسي والاجتماعي.

والطواف أيضاً فيه نحو من إظهار الحب والإخلاص والاحترام لمن تطوف حوله، وخصوصاً إذا كانت شواخص جامدة كقبور الموتى أو بيوت الأحياء. فكذلك الحال في الطواف حول الكعبة المشرفة بصفتها مظهراً من مظاهر التوحيد)([5]).

فهي مظهر من مظاهر الفناء، وحين تلتزم بالمسير (أثناء طوافك لا ينبغي عليك أن تدخل الكعبة، ولا ينبغي عليك أن تتوقف في نقطة ما حولها ... عليك أن تذوب في أمواج البشر، وأن تكون قطرة في خضم النهر البشري المنساب. هذا هو السبيل الذي من خلاله تؤدي الفريضة الخامسة) ([6]).

ومن ثم كانت صلاة الطواف خلف مقام إبراهيم (u)، ومقام إبراهيم على شكل أسطوانة موضوعة قرب الحرم قريبة من الركن العراقي، وعلى الحاج عند إكمال الطواف أن يصلي خلفها ركعتين يقرأ فيهما الحمد وأية سورة أخرى، ونيتها تنص: "أصلي ركعتي صلاة الطواف لعمرة التمتع لحج التمتع لحجة الإسلام قربة إلى الله تعالى". فإذا استطعت أن تصلي أكثر من صلاة وتهديها لمن تحب فلا مشكلة ، وهذا مكان مهم وعظيم، وفيه تستجاب الدعوات والصلوات.

من هنا السعي:

وأمام مقام إبراهيم (u) هناك عبارة مكتوبة على إحدى الأبواب (من هنا السعي)، فوقفنا وشربنا من الماء المعروض في طريقها وقد كتب عليه (ماء زمزم) الذي يستحب أن تشربه بعد صلاة الطواف وترشُّ منه على رأسك وجسمك. سرنا مسافة قليلة حتى وقفنا عند جبل الصفا وهو مكان صغير، وهناك عقدنا النية التي تنص: "أسعى بين الصفا والمروة سبعة أشواط لعمرة التمتع لحج التمتع لحجة الإسلام قربة إلى الله تعالى".

وهناك جملة كُتبت في بداية الجبل تقول (البداية من هنا) كما كُتب باللغة الانكليزية (safa start)، عندها أخرج البعض منا كراساً صغيراً فيه أدعية الأشواط السبع، وبعد قطع مسافة بين الصفا والمروة رأينا الناس تهرول في تلك البقعة التي هرولت فيها هاجر أم النبي إسماعيل (u) وراحت تبحث عن الماء لولدها، ومع مرور الوقت رحنا نقطع المسافة شوطاً بعد آخر حتى أتممنا المرحلة الرابعة من مراحل عمرة التمتع.

خرجنا خارج المسجد من جهة غزة:

وبعد أن وصلنا إلى المرحلة الخامسة من مراحل عمرة التمتع والتي هي الجزء الأول من حجة الإسلام التي يجب القيام بها جاء دور التقصير، حيث خرجنا خارج المسجد من جهة غزة، وهنا لا بد من عقد النية التي تنصّ على: "أقصّر للإحلال من إحرام عمرة التمتع لحج التمتع لحجة الإسلام قربة إلى الله تعالى" وهو قص جزء قليل من شعر الرأس أو اللحّية، وقد أخرج الرجال والنساء من حقائبهم مقصاً صغيراً وأخذ كل واحد منهم من شعر رأسه شيئاً قليلاً حتى انتهت المهمة بسلام مع الجهد والتعب والعناء، فهو حج، والحج يحتاج إلى الطاقة والقدرة على أداء هذه المهمة العظيمة

فلا تتصور أن الأمر كان سهلاً والطريق أمامك مفتوحاً، وإنما فيه الكثير من الأمور والمشاق والصعاب، مع التحلّي بروح الصبر والعزم والتوكل وعقد النية، فقد لاحظت أنّ كل مرحلة من هذه المراحل كانت بِنِيَّة، والنيّة الكبرى هي أداء مناسك الحج الأكبر، والوصول إلى الهدف الأعظم وتحقيق الإنجاز الأصعب.

هذه كانت رحلتنا لهذا اليوم، وكان أهم أيام رحلتنا إلى الديار المقدسة التي قطعناها على أنفسنا، فنرجو من الله عز وجل أن يتقبل منا هذا القليل ويعفو عنا ويرحمنا إنه على كل شيء قدير.

فلنجعل من هذه اللحظات دروساً في الإيمان، ونسعى جاهدين لتحقيق الأهداف السامية التي رسمناها لأنفسنا، ولنجعل من كل خطوة نخطوها نحو الله تعالى، فرصة لتجديد العهد والإخلاص.





([1]) سورة البقرة: الآية 197.

([2]) إظهار الفخر من حيث الحسب والنسب.

([3]) فقه الأخلاق، مصدر سبق ذكره، ج2، ص133.

([4]) محبس الجن: منطقة تاريخية ذات أهمية دينية وسياحية، قريبة على الحرم، يعتقد البعض أن هذا المكان كان موطناً لهم أو أنه كان هناك حبس لهم فيه.

([5]) فقه الأخلاق، مصدر سبق ذكره، ج2، ص137.

([6]) الحج الفريضة الخامسة، علي شريعتي، ص105.

تعليقات
ليست هناك تعليقات
إرسال تعليق

إرسال تعليق

الاسمبريد إلكترونيرسالة