اليوم الخامس
عند جبل أحد والمساجد السبع
المقدمة:
في
اليوم الخامس من رحلتنا إلى الديار المقدسة ووجودنا في المدينة المنورة مدينة
الرسول المصطفى (ص) التي شرفها الله عز وجل بوجود من سكن فيها، لقد أحاطها الرسول،
وتردد في أسواقها ومساجدها ومسالكها ذات الأهمية الكبيرة والجليلة، ينبغي لمن وطأ
هذه الأرض الطاهرة أن يتحلى بالصفات العالية والأخلاق الفاضلة وأن يُراقب نفسه من
الخطل والزلل، ويجل ويحترم هذه المعالم الخالدة والمراقد الغالية.
ومع
إشراقة يوم جديد وانتهاء صلاة الفجر توجهنا إلى المسجد النبوي ودخلنا إلى أرض بقيع
الغرقد؛ ذلك المكان الذي لا يُملّ منه لما يضم من أجساد طابت وطهرت. والبقيع في
اللغة يعني الأرض الرخوة الخالية من الحجارة؛ كما لاحظنا ذلك، وهي أرض واسعة محاطة
بسياج كبير، ولها مداخل متفرعة ولكن مغلقة إلا بأذن، فلا يُفتح منها إلا باب واحد
فقط ولساعات محدودة من اليوم.
بعد
ذلك، توجهنا إلى موضع قبر الرسول (ص) ورحنا ندعو ونزور ونتأمل المكان الطاهر
المطهر الذي يضم جسد الرسول الأعظم، مع زحمة الحشود التي تتوافد على الضريح المعظم
تعكس محبة الناس لهذا النبي الكريم. إنّه محمد، أعظم رجل عرفهُ التاريخ البشري.
انتهينا
من الساعات الأولى من صباح هذا اليوم ورجعنا إلى الفندق للاستراحة والنوم، ومن ثم
النزول إلى الأسواق التي توجد قرب المسجد النبوي فلم نشترِ منها شيئاً، إلا أن
التجوال في تلك الأسواق كان له لذته الخاصة.
ضرورة الاستعداد الروحي:
ثم
حان وقت المحاضرة التي يُلقيها المرشد كل يوم على حجاج القافلة، حيث كان هو
المسؤول عنهم من الناحية التوعوية والإرشاد الديني والتثقيف على أداء مراسم الحج
للوصول إلى الحج الأكبر، تناول
في حديثه أموراً كثيرة، وذكر مجموعة من الروايات التي تشير إلى أهمية الطواف في
تلك الأرض المقدسة، قائلاً: (فمن طاف بالبيت سبعاً ولا يتكلم إلا بالذكر والدعاء
كان له الأجر الكثير والفضل الجزيل، وأن يكون الطواف بكل سكينة وهدوء ووقار، فمن
حافظ على ذلك غفر الله له ما تقدم من ذنبه وما تأخر) ([1]).
مما جعلنا نستشعر عظمة هذه البقاع الطاهرة وضرورة الاستعداد الروحي لأداء شعائر
الحج بالشكل الصحيح.
وهناك
آداب وتعليمات ومستحبات يجب القيام بها أثناء الطواف، وبتركها يبطل الطواف إذا كان
عن جهل، مع شرط التكفير إذا وقع ذلك، وأول هذه الشروط النية؛ فهي مرتكز الأعمال
والعبادة، وقد ورد: اجعل كل عملك بنيّة، كما ورد عن الرسول (ص): (يا أيها الناس إنما الأعمال بالنيات،
وإنما لكل امرئ ما نوى، فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله فهجرته إلى الله ورسوله،
ومن كانت هجرته إلى دنيا يصيبها أو امرأة يتزوجها فهجرته إلى ما هاجر إليه)([2])،
ويجب أن يؤتى بها بنيّة التقرب إلى الله تعالى.
من الشروط المهمة:
وبعدها
الشرط الثاني وهو الطهارة من الحدث الأصغر والأكبر اللذين تعرفنا عليهما في
المحاضرات السابقة، فلا بد من الاهتمام بالوضوء والغسل كي لا يقع الشخص في
المحذور، ويستحب أن يكون أداؤه صحيحاً. كما أنَّ طهارة البدن من الدم والنجاسة من
بين الشرائط المهمة، فإذا أحدث الطائف خلال الأشواط الأربعة الأولى عليه أن يتوضأ
ويعيد الأشواط الأربعة من جديد، أما إذا أحدث وليس باختياره عليه أن يتوضأ ويكمل
من أي طواف أحدث به، فإذا كان بالاختيار توضأ وأعاد الطواف من البداية. ولا تجب
الإعادة بدون سبب مهم، ولا يجوز للحاجّ أن يترك ما طاف ويعيد الطواف. والشرط الآخر
من شرائط الطواف هو ستر العورة.
أما
الواجبات التي يجب أن يأتي بها الطائف فأولها الابتداء من الحجر الأسود والانتهاء
بالحجر الأسود أيضاً. وللكعبة أركان أربعة هي ركن الحجر الأسود، وبعدها العراقي،
والشامي، واليماني، وكل ركن يكون مقابلاً لبلد من البلدان المعروفة، ولذلك سمي كلّ
منها باسمه، وهكذا أجبتُ عندما تعرضتُ إلى مثل هذا السؤال.
وتوجد
حالياً شمعة ضوئية مُعلقة في أحد الأركان لتُشير إلى بداية الانطلاق، وهي على شكل
خط وهمي لتحديد مكان الحجر الأسود، وعلينا أن نقف قبل ذلك وننوي الطواف بهذه
النيّة: "أطوف حول البيت سبعة أشواط لعمرة التمتع لحج التمتع لحجة الإسلام
قربة إلى الله تعالى" إذا كان العمل مثلاً عمرة التمتع أو العمرة المفردة.
ومن
واجبات الطواف أيضاً أن تكون الكعبة على جهة اليسار مع عدم الالتفات إلى الخلف،
أما الالتفات البسيط فلا خلل فيه ولا إعادة، مع الالتزام بالحركة المعروفة وعدم
التدافع والحفاظ على الهدوء والتأمل في ذلك والانشغال بالذكر والدعاء.
والأشواط
سبعة لا زيادة فيها ولا نقصان، وإن حدث غير ذلك فهي باطلة، فلا بد من ضبط الأعداد
بشكل صحيح من خلال مسبحة أو جهاز الكتروني، أو بالاعتماد على كراس صغير فيه
الأدعية السبع وتكون مرقمة لكل شوط دعاء، وكثير من الناس يستخدمون هذه الطريقة
ومنهم مَن يستخدم الإصبع كما رأيت ذلك.
ومن
شرائط الطواف أيضاً التوالي؛ أي أن يكون واحداً بعد الآخر، فلا يجب أن تكون هناك
فواصل بينهما إلا إذا كانت الفترة أقل من عشرة دقائق.
ومن
شرائط الطواف أن تكون حركة الطائف باختياره، فإذا أخذه التدافع إلى مكان أكثر من
المتعارف عليه صار الطواف ليس باختياره وإنما بسبب التدافع انتقل إلى أبعد نقطة،
وهنا عليه أن يرجع إلى الخلف ويجدد النية ويكمل العمل، مع ملاحظة أن كل شك في عدد
أشواط الطواف مبطل لها!
وبعد
إتمام الطواف لسبعة أشواط تأتي صلاة الطواف على أن تكون خلف مقام إبراهيم (u)
وعلى أن تكون مباشرةً بعد الطواف، ويمكن بعدها أن تأتي بالصلاة المستحبة فلا مشكلة
في ذلك. وصلاة الطواف ركعتان كصلاة الفجر، بلا أذان ولا إقامة، ونيّتُها هي:
"أصلي ركعتي الطواف لعمرة التمتع لحجة الإسلام قربة إلى الله تعالى".
ويقرأ المصلي فيهما سورة الفاتحة وأيَّة سورة أخرى، ويكون مخيّراً في قراءتها بين
الجهر والإخفات، فمن تركها عالماً عامداً بطل حجُّه.
:جاءت وجبة الغداء
بعد
أن انتهى المرشد من تعليمنا هذه الأحكام ذهبنا لتناول وجبة الغداء التي كانت عبارة
عن رز ودجاج مع شيء بسيط من الفواكه والخضروات، ومن ثم عدنا إلى الغرفة لأخذ قسطٍ
من الراحة، فلنا موعد مع أهم المعالم والمساجد والآثار التاريخية التي توجد في
المدينة المنورة، حيث تجمعنا في باحة الفندق استعداداً لموعد الخروج.
وعند
الساعة الرابعة إلا ربعاً عصراً ركبنا الحافلة وتوجهنا إلى أول وجهاتنا ألا وهو
جبل أحد وزيارة الشهداء هناك، وكلنا يعرف القصة التاريخية والمعركة التي دارت في
هذا المكان وما حدث فيها من انهزام لجيش المسلمين بعد أن تخلى الرماة عن أماكنهم
ونزلوا لجمع الغنائم فالتفّ جيش العدو من خلفهم بقيادة خالد بن الوليد وأحدثوا
شرخاً في صفوف المسلمين، فقتل على إثر ذلك حمزة سيد الشهداء ومعه مجموعة من
المسلمين.
عند جبل احد والمساجد السبع:
وأُحد
هو جبل([3]) منفرد عن تلك
السلسلة الجبلية التي توجد في المنطقة، وقد سُمّيت المعركة بهذا الاسم لوجود هذا
الجبل فيها. ثمّ دخلنا إلى المسجد الذي شيد قرب الموقع وصلينا ركعتين كي تبقى
أثراً شاهداً وخالداً قد وطأته أقدامنا.
وقد
تسلقنا الجبل؛ وإن كان فيه شيء من الكراهة، ولكن للاطلاع على تلك المعالم والشخوص
الباقية هناك حتى وصلنا إلى أعلى القمَّة ورحنا نطيل النظر حول الآثار التي تحيط
بالمكان والمحال، كما وقفنا على قبر الشهيد الخالد حمزة بن عبد المطلب
"رض" في تلك المقبرة المسيجة بجدار عالٍ، ولا يسمح بالدخول إليها.
ومن
ثمّ توجهنا إلى مسجد القبلتين واطَّلعنا على قصته وما حدث فيه وكيف تم تغيير
القبلة إلى المسجد الحرام بعد أن كان المسلمون يصلون إلى المسجد الأقصى، فكان يحزّ
في نفس الرسول وكان يطلب من الله تغيير القبلة فنزلت الآية: }فَلَنُوَلِّيَنَّكَ
قِبْلَةً تَرْضَاهَا فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ{([4]).
وقد
ذكر المرشد كيف تم تغيير القبلة في وقت صلاة الظهر حيث صلى النبي ومن معه ركعتين
منها إلى جهة القدس والركعتان الأخريان نحو المسجد الحرام فكانت صلاة العصر أول
صلاة كاملة صلاها المسلمون نحو الكعبة. ودخلنا إلى داخل المسجد الواقع في أطراف
المدينة المنورة وأخذنا صورة تذكارية هناك.
ومن أهم المعالم التي يزورها القادمون
إلى المدينة المنورة، المساجد السبعة، وهي مجموعة مساجد صغيرة عددها الحقيقي ستة
وليس سبعة ولكنها اشتهرت بهذا الاسم نظراً لإضافة البعض لمسجد القبلتين ضمن هذه
المساجد، وذلك لأن من يزورها يزور ذلك المسجد أيضاً في نفس الرحلة فيصبح عددها
سبعة.
وهي:
مسجد الفتح، مسجد سلمان الفارسي، مسجد أبي بكر الصديق، ومسجد عمر، ومسجد الإمام
علي، ومسجد فاطمة، وهنا لم تقف بنا الحافلة لنطلع عليهم عن كثب وإنما عرَّفها لنا
المرشد أثناء المسير ونحن ننظر لها عن بعد، وأغلبها شخوص واقعة على تلال مرتفعة.
عند مسجد قباء:
وفي
الختام توجهنا نحو مسجد قباء وتعرفنا على حكايته والآية التي نزلت فيه }لَمَسْجِدٌ
أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَنْ تَقُومَ فِيهِ...{([5]) فكان
رسول الله (ص) يستقبل الناس في بيت سعيد الأنصاري القريب من بيت كلثوم بن الهدم،
بعد أن هجرته إلى المدينة وهنا أسس على تلك الأرض مسجد قباء.
وقد
أسس المنافقون مسجد ضرار الذي أُسس على الحقد والنفاق، وقد أمر النبي بحرقه وهدمه }وَالَّذِينَ
اتَّخَذُوا مَسْجِدًا ضِرَارًا وَكُفْرًا وَتَفْرِيقًا بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ{([6])،
إذ يعتبر مسجد قباء أول مسجد تم بناؤه في الإسلام بعد هجرة الحبيب المصطفى (ص)،
كما يعتبر ثاني أهم المساجد التاريخية ذات الأهمية الإسلامية في المدينة المنورة
بعد المسجد النبوي. وقد تجولنا في أروقته والتقطنا الصور التذكارية هناك وحمدنا
الله سبحانه وتعالى على نعمة الوصول إلى هذه الأماكن الشاهدة على عمق الإسلام
وعظمة رسالته وقائدها الرسول الأعظم.
هنا
أنقل لكم ما حدث معي عندما كُنت أقف أمام أبواب الفندق، فقد كان هناك سائق أُجرة
يعلو صوته وينخفض، حيث يردد سريعاً (گُبا گُبا گُبا)، وكنت لا أعرف ماذا يقصد
وماذا يقول بالتحديد؟ حتى دنوت منه شيئاً فشيئاً، وقلت له: إلى أين تذهب؟ قال: إلى
مسجد قباء، هل تُريد الذهاب، فقلت له: نعم، ولكن سأذهب مع الجموع سويةً.
هذه
كانت نهاية يومنا الخامس من الرحلة المباركة إلى الديار المقدسة برفقة مجموعة من
الحجاج المؤمنين الطيبين الذين تعرفنا عليهم أثناء هذه الأيام المباركة في المدينة
المنورة.
إرسال تعليق